افتح الحاسب الآلي لكتابة هذه الزاوية الأسبوعية، لكن ما ينز من الذاكرة لا يكفي لملء سطر واحد، أتململ في جلستي بحثا عن موضوعات قابلة للكتابة فأجد أن كل الأفكار مستهلكة ولا شيء جديد في الحياة يستحق الكتابة عنه فقد سبقني المتقدمون والمتأخرون في الكتابة عن كل شيء. أعدل من جلستي أقف أجلس أمشي أبدل المكان استمع إلى أصوات الموسيقى وأصغي إلى الطبيعة ولا شيء يأتي. يبدو أن اليوم لن يمر بسلام فهذه معضلة الالتزام، أجزم أنكم مثلي لديكم معضلة كبرى مع الالتزامات الكثيرة في الحياة حتى وإن كانت صغيرة لكنها تبقى التزاما أمام النفس وأمام الآخرين والتراجع عنها يكون في كثير من الأحيان بمثابة عدم الوفاء بالعهد.
هاتف يدق باب عقلي ويطرقه بقوة كيف تقول إن لا أفكار في الحياة وأنك لا تستطيع الكتابة عن أي شيء وأن الأفكار قد جفت والصحائف امتلئت من كثرة ما يكتب؟ اكتب مثلا عن مشاكل الإنسان اليومية التي تعترضه منذ شروق شمسه وحتى ناشئة ليله فهذه كثيرة، اكتب عن معاناة البشر في الحصول على رغيف يوم يقتاتون به أو عن رب أسرة يعاني في توفير قوت يومه لعائلته الكبيرة، ساعد في الكتابة عن شاب يحاول البحث عن فكرة مشروع يبدأ بها حياته ويحقق بها حلمه، اكتب عن أحلام الفتيات الجدد في العالم المفتوح أو عن معضلات الحياة الافتراضية التي غدت رغم أنفنا حياة واقعية، اكتب عن رحلاتك في قيعان الأودية أو قمم الجبال. كل شيء يدعو للكتابة حتى نسمات الهواء العليل في شتاءات مسقط تدعو للكتابة.
يعاود الطارق قرع العقل، لماذا لا تكتب عن السياسة فهذه مشاكلها لا تنتهي وبحورها لا تنضب ونزاعاتها لا تحل فخصامها فجور وحديثها كذوب وساستها يجيدون اللعب على كل الحبال والأوتار ويمكن ملء مجلدات وتأليف آلاف الكتب وليس فقط كتابة مقال من ستمائة كلمة على أفضل الأحوال أو عن الاقتصاد والارتفاع والانخفاض والعملات الحديثة والقديمة وغيرها من الموضوعات الكثيرة التي تنساب كل دقيقية في أرجاء العالم المترامي الأطراف.
أعود لذاتي وأشخص معضلتي بأنها ليست في جفاف الأفكار لكنها في مشتتات الحياة اليومية التي تجبرك على التشرذم والانقسام والتشظي ما بين هاتف صراخه يبتلع سكون الحياة وصمتها وتتشعب مسالكه بين متصل هنا ومرسل هناك ومغرد من مكان قصي ومدون يكتب حروفا قصيرة، وآلاف من الوسائط السمعية والبصرية تتهافت عليك وتتقصدك من وسائل التواصل وبريد يسألك الرد عليه، عشرات النوافذ المفتوحة تسألنا الانتباه لها وتدعونا لمشاركة أصحابها أفراحهم وأحزانهم في حلهم وترحالهم في سفرهم وأوبتهم، كل هذه المشتتات والملهيات كما أسماها علماء الاجتماع بأنها من نوع الأنشطة السطحية القصيرة التي لا يدوم ثمارها ولا يرتجى نتاجها على عكس الأنشطة الأعمال العميقة التي تتطلب جهدا ذهنيا حاضرا وتركيزا مكثفا وبحثا وتنقيبا ويتطلب العمل فيها الكثير من الانتباه والتركيز.
قرأت مقالا قصيرا للروائي البرازيلي باولو كويلو يتحدث فيه عن المعضلة ذاتها التي أعانيها قال فيه: إننا نقتل أحلامنا بتحقيق المنجزات بحجة أننا لا نمتلك الوقت الكافي لتحقيقها، فالذين لا يفعلون شيئا– سوى الأنشطة السطحية- كما يقول كويلو هم دائما متعبون ولا يلقون بالا للكمية القليلة من العمل المطلوب منهم القيام به ويشتكون باستمرار من ان اليوم قصير جدا لكنهم في الحقيقية هم يخافون من خوض معركة جيدة.
خوض المعارك كما أسماها الروائي البرازيلي ذائع الصيت تأتي معركة الكتابة في قمة هرمها، فالكتابة منذ أمد الدهر هي الوسيلة الأولى للإبداع والتحضر ومعاركها تبدأ من فكرة بسيطة قد تلتقطها من أي مكان وفي أي زمان فلا وجود للإصابة بعدوى الأفكار مكان أو زمان فهي تأتي كإلهام أو وحي كما يصفها المبدعون والملهمون وبمجرد ملامسة الفكرة لعقل الكاتب يبقى تجسيدها على الواقع بحاجة إلى معركة أخرى من الأعمال العميقة التي لا يجب أن تتعرض للشتات أو الضياع.
لن أسهب في الحديث عن معضلة الكتابة فكما أجزم أن الكثير ممن يمتهنونها هم يعانون يوميا من أرق سهولة اختطاف فكرة عابرة أو تشمم رائحة فكرة قد ينتج عنها عمل إبداعي يبقى خالدا أبد الدهر ولكنني أعود إلى نفسي لأقول أن ملهيات الحياة الحديثة ومشتتاتها قد ضاعفت من تعميق هذه المعضلة وابتعد كثير من أصحاب الأقلام المبدعة بحجة أن ماء الأفكار الجديدة قد نضب وأن معين الكتابة يوشك على النضوب.