- ان كانت سلاسل جبال الحجر الشرقي والغربي بمثابة العمود الفقري لجيولوجية سلطنة عمان فإن سلاسل جبال مسندم هي بمثابة الرأس النابض والمسهل لحركة باقي أجزاء الجسد. سلاسل وقمم جبلية شاهقة انبثقت من عرض البحر وفيما تبقى من شريط الأرض فإن الانسان ومنذ القدم استطاع ترويضها لتشكلا معا ثنائية صيد ورعي كانت مهمة لاستمرار بقاء وجود الانسان على تلك البقعة.
من الأعلى تبدو اللوحة سريالية وكأنها رسمت بريشة فنان ساحر؛ تداخل عبقري بين اللونين الأزرق والرمادي جعل من تلك اللوحة الربانية من أجمل اللوحات على الاطلاق لا تستطيع أن تشيح بناظرك عنها أو أن تغفل عن مشهد من مشاهدها. مناظر تتوالى من النافذة الصغيرة للطائرة؛ مشهد ذهبي لانعكاس ضوء الشمس على صفحة الماء؛ وخلجان تتقاطع تارة وتنفصل تارة أخرى؛ وجروف صخرية تغوص في قلب البحر لتبرز حادة كالخنجر فوق سطحه؛ وجزر متناثرة كحبات اللؤلؤ تطفو على صفحة الماء لتكون عقدا جميلا يطوق جيد مسندم؛ ويتوج هذا المشهد المهيب بياض قوارب الصيادين والبحارة وهم يمخرون عباب تلك البحار كحال أجدادهم من قبلهم ممن قادتهم سفنهم إلـى بحار الدنيا قاطبة.
لم تكن هذه الرحلة هي الأولى التي تطأ فيها قدماي أرض مسندم، فقد سبقتها رحلات تسلقت فيها جبالها؛ غصت في قيعان بحارها؛ مشيت بين دروبها ونمت في أحضان جبالها. لكن لهذه الرحلة غرض خاص وطعم اختلف في حلاوته عن باقي الرحلات الأخرى فهي بصبحة ثلة من الزملاء الصحفيين وبدعوة كريمة من جمعيتهم التي دأبت على إقامة منتديات صحفية في مناطق عمان الجميلة وأيضا هي بتنسيق ورعاية كريمة من محافظ مسندم السيد إبراهيم بن سعيد البوسعيدي الفنان الشاب الذي يتكئ على تاريخه الفني في التصوير لإبراز مكنونات المحافظة والترويج لها ثقافيا وحضاريا واقتصاديا وانسنانيا.
مدينة بدون سيارات اجرة :
الطائرة الضخمة من فئة البوينج تخترق الأزرق الشاسع بامتداد الأفق لتصل الى نقطة تحاصرها سلاسل جبلية عالية، وبقعة صغيرة من الأرض لا تزيد عن الكيلومترين قدت من الأديم وسوت بالأرض لتفترشها الطائرات كمهبط قصير لا يتيح لقبطان الطائرة استعراض مهاراته في الهبوط بل عليه ان يكون منتبها لكل حركة يقوم بها؛ فالمطار الحالي هو في الأصل مطار صغير لقاعدة عسكرية تمت توسعته ليستوعب هبوط الطائرات الكبيرة بعد ارتفاع حركة السياحة لا سيما السياحة الشتوية وتدفق أعداد كبيرة من السياح على المحافظة للاستمتاع بالشمس والمغامرات البحرية بين خلجان مسندم وجروفها.
الاخبار المفرحة المسافرة من عاصمة البلاد تقول أن مطارا حديثا سيتم إنشاؤه في خصب ليكون قبلة وواجهة جميلة ترحب بالسياحة والسائحين، وهذا ما أكده السيد المحافظ خلال لقائنا به في ندوة ” مسندم أرض الفرص” أن مشروع مطار خصب الجديد قد تم طرح مناقصته الأولى والمتمثلة في التخطيط والتصاميم الأولية للمشروع ويتضمن سفلتت الطريق المؤدي الى المطار الجديد وانشاء المدرج والمباني التابعة له، ويتوقع ان تبلغ الكلفة المبدئية للمشروع ٨٠ مليون ريال للمرحلة الأولى كما اشار الى ذلك رئيس هيئة الطيران المدني في لقاء جمعه بوسائل الاعلام.
إجراءات الخروج من المطار بسيطة وسهلة فصالة القادمين تفضي إلى مواقف السيارات الرابضة بانتظار الركاب وجل تلك السيارات هي لمكاتب التأجير التي افتتحت فروعا لها في المطار حيث يعلم القادم إلى مسندم أن وسيلته الوحيدة للتنقل طوال فترة اقامته ستكون بسيارة مستأجرة فالمدينة لا تعترف باللون الأصفر الذي تصطبغ به سيارات الأجرة في عموم البلاد كلها. أخبرني موظف في بلدية خصب أن مسندم كلها لا توجد بها سيارات للاجرة عدا سيارة واحدة وهي معفاة من كافة الرسوم الفنية والإدارية.
لماذا المدينة دون سيارات أجرة؟ وماذا يفعل السائح والمقيم حال رغبته في التنقل من مكان الى آخر؟ سؤال تهت في الإجابة عنه لكنني وجدت إجابته بأبسط ما تخيلت ” إن وقفت على ناصية الشارع ستجد ألف سيارة وسيارة تقلك” هكذا أفحمني الرد، وهي إجابة تقاربت مع سؤال طرحته وأنا في عقر كمزار قرية الماء والصخر ” إن وصلكم سائح ولم يستطع العودة إلى خصب بسبب الأمواج العاتية والرياح النشطة؛ أين يمكنه الإقامة وأنتم لا يوجد لديكم نزل أو استراحة”؟ “كل بيوت كمزار هي بيته” كانت الاجابة المسكتة.
هكذا خبرت طيبة هؤلاء القوم وكرمهم وترحيبهم بكل من أتاهم زائرا فهم لا يدخرون وسعا في توفير سبل الراحة لمن زارهم فالمعروف عن سكان قمم الجبال رغم قساوة حياتهم إلا أنهم كرماء يحتفون بمن أتاهم.
خصوبة خصب:
خصب العاصمة الادارية للمحافظة تقع على شريط ضيق بين السهل والجبل لكنها تمتاز بمناظر سعف نخيلها الخضراء تتأرجح مع هبوب الرياح الباردة شتاء والحارة صيفا؛ وعندما بحثت في أصل التسمية وجدت أنها جاءت من الخصب. فخصب هي الخصب والرخاء والبركة والنماء لمسندم كلها ويقصدها الجميع لقضاء حوائجهم والإقامة فيها لا سيما من سكان القرى الجبلية والساحلية القريبة منها، وهو ما قاله لي أحمد بن محمد الكمزاري من سكان كمزار حين سألته عن تحملهم الإقامة في كمزار خلال فصل الصيف اللاهب حين تتعاون ثنائية الجبل والبحر ضدهم لتتسبب في ارتفاع نسبة الرطوبة ووصول درجة الحرارة الى منتصف الاربعينيات؛ قال “خلال فصل الصيف لا يبقى أحدا في كمزار كلها فالجميع يرتحل إلى خصب حيث موسم القيظ”، وشاهدت لاحقا في تطوافي السريع في خصب حارة تسمى ” حارة الكمازرة ” فعلمت أن خصب تلم شمل مسندم كلها بتوفيرها كل الفرص.
خصب اليوم ورشة كبيرة للمشاريع العملاقة والتي يخطط لها أن تنقل ليس المدينة فحسب وانما عموم المحافظة الى مراتب أخرى من الحداثة والتطور والمدنية فبالإضافة الى المطار الذي تحدثنا عنه سابقا هنالك عمل دؤوب يجري في مينائها الموسع واسند الى شركة موانئ هيتشسون لتطويره وتشغيله بحيث تقوم الشركة خلال سنتين بإعداد دراسات الجدوى الاقتصادية على أن تتوسع أنشطته في تقديم الخدمات للناقلات والسفن العابرة لمضيق هرمز الذي يعتبر القلب النابض والبوابة الرئيسة التي تربط بين الخليج والبحار المفتوحة في بحر عمان والمحيط الهندي. وهنالك ورشة أخرى على الطرف الآخر من الولاية بدأت في إقامة مدينة محاس الصناعية واخرى للمشروعات السياحية المختلفة والتي توجت مؤخرا بافتتاح السلك الانزلاقي في خصب والذي يخطط له أن يكون أول سلك انزلاقي في العالم بتسجيله في موسوعة غينيس للارقام القياسية بطول 1800 متر.
“تشابي حال” :
الزائر لمسندم وتحديدا لجوهرتها خصب لا بد له من الغوص في أعماق بحرها والسباحة بين خلجانها الجاثمة على سطح الماء وكأنها حيتان خرجت من عمق البحر وتغافلت عن العودة اليه. هكذا قفزنا على ظهر سفينة غافية على سطح الماء لتحملنا في جولة سحرية تنقلنا إلى عالم آخر يتقاطع مع عوالم الخيال حيث تكوينات صخرية نبتت في أعماق البحر وجزر بأشكال وألوان مختلفة نمت من عمق البحر. أبحر بنا ربان المركب باتجاه قريته التي يعرفها جيدا من دون الحاجة الى دليل أو خارطة طريق تدله إلى وجهته فهو الكمزاري المتمرس في شؤون البحر وشجونه ويعرف مواسم النسيم ومواسم السموم، يسلك دروبا بحرية لا يكابدها إلا من أوتي صبرا ومعرفة وحكمة وكأن رحلاته البحرية اليومية ما هي إلا روتين يومي كمن يقود سيارته في طريق سالك كل يوم.
لاحت لنا من البعد قرى صغيرة متناثرة تتكئ على حافة البحر ويسندها جبل شم قال لنا رباننا بأنها قرى قانة وشم وكلها بلا استثناء وصلت اليها الكهرباء وتشرب من ماء زلال يصلها عبر السفن من خصب.
من البعد كشفت كمزار عن خدرها وكأنها عقد يطوق جيد غانية حسناء، تساكن الماء وتسند ظهرها للجبل، نبتت في واد غير ذي زرع. ما إن تدخلها حتى تشعر وكأن الزمن عاد بك الى الوراء بيوت متراصة وكأنها بيت واحد؛ الصمت والهدوء يطوقان المكان حيث لا تعوي السيارات في هذا المكان فهي قرية بدون محركات باستثناء حافلتان للمدرسة وأخرى للمركز الصحي عدا ذلك فهي قرية صحية بكل المقاييس العالمية من دخلها فهو آمن على صحته النفسية والبدنية وهو ما صرح به الطبيب السوداني المقيم في القرية منذ سنوات بأنه لا ينوي الخروج منها.
” تشابي حال” “خوشي” سألنا أحمد الكمزاري بلغته الكمزارية التي هي كما يقول خليط من عدة لغات كالفارسية والعربية والتركية والانجليزية والبرتغالية ولا يتكلم أهل كمزار فيما بينهم الا هذه اللهجة اما مع الزوار فان العربية هي لغتهم.
كثير من الكتابات خطت عن كمزار وأهلها لكن كما يقول المثل العربي ” ليس من رأى كمن سمع” فالواقف على مشارف قرية التاريخ يختلف عمن يسمع أو يشاهد وكنا نحن في تلك الرحلة من المحظوظين في ولوج أبواب سحرية لا يتنسى للكثيرين دخولها.