مشهد طوابير السيارات العالقة في زحام نهارات مسقط الصائمة يعيد إلى الأذهان ما كانته هذه الشوارع قبل عامين حين تسببت الجائحة في منع الحركة وإغلاق الشوارع. المشهد في تناقضه بين الفضاء والزحام يحيلنا إلى تذكر تلك الأيام حين كانت الأعمال تدار من البيوت والاجتماعات تعقد في الفضاءات الافتراضية وبيئة الأعمال بأكملها غدت بيئات افتراضية يتواصل الناس فيها عبر السماوات المفتوحة.
انقضى الهم الأكبر من الجائحة وبقيت بعض عوالقها تطل برأسها بين فينة وأخرى، وعادت الحياة إلى صخبها كما كانته من قبل وامتلأت الشوارع بضجيج وزحام السيارات وعاد الناس إلى طبيعتهم وكأن شيئا لم يكن وكأن دروسا لم تتعلم من تجربة كانت ثرية وكفيلة بأن تحل كثيرا من مشكلات البشر وهمومهم ومعضلاتهم وكما يقال فالخير في أحيان يولد من رحم الشر.
سألني صديق في معرض تعليق له على أكداس السيارات المتوقفة في حارات شوارع مسقط انتظارا للوصول إلى وجهاتها المحددة، ألا من حل لهذا الزحام الصباحي المتراكم وكأن المسألة تبدو من غير حل وكأنها قد استنفذت بدائلها كلها؟ لماذا لا نؤوب إلى العادات الحميدة في التقليل من المشاوير ومن إنجاز الأعمال من المنزل ما أمكن ومن محاولة جعل بيئة الاعمال على مدار اليوم أو على مسارات مختلفة واوقات متعددة تتيح للجميع بعض الحرية بدلا من التسابق واللهاث على الاسفلت كل يوم في أوقات محددة بالدخول والخروج؟
قلت لهذا الصديق السائل بأن لا جديد في موضوع الزحام فكل الدنيا مزدحمة ليس عندنا فقط ولكن العالم برمته يعاني من هذه المشكلة ولن يحل الأمر زيادة في أعداد الطرقات والشوارع فأعداد البشر تفوق الزيادات في أعداد الطرق والشوارع والبنى الاساسية حتى وسائل النقل البديلة والمستعاض عنها لتقليل زحام البشر لم تفلح في القضاء على هذا التزاحم بل إن الأمر تتفاقم حدته كل يوم وتتعمق مشاكله حتى وإن لجأ الانسان ذاته إلى التحليق في السموات المنخفضة فلن يجدي الأمر نفعا.
قد يكون العودة إلى إعادة النظر في مفهوم العمل وبيئة الأعمال هي الأنجع والأجدى في موضوع التقليل من الزحامات الصباحية والمسائية، فإدخال التقنيات الحديثة التي باتت متوافرة مع توافر الخبرات العملية في ادارة هذه التقنيات والأشواط الكبيرة التي قطعت في هذا المجال أيام الجائحة قد يشجع إلى المضي قدما في العودة إلى هذا النوع من بيئات الأعمال التي لا تتطلب الحضور الشخصي من الموظف ويمكن انجاز الأعمال من أي مكان ربما قد يقلل ذلك من كثير من التكاليف التي تتكبدها مؤسسات الأعمال من فواتير الخدمات الاستهلاكية والتنظيف والصيانة وغيرها من الأموال التي يمكن توفيرها بانجاز الاعمال من أماكن مختلفة. إضافة إلى إمكانية دراسة تتغيير مواعيد العمل مع إبقاء المرونة في عمليات الدخول والانصراف بعدد محدد من الساعات.
العديد من المؤسسات أبقت على موضوع العمل عن بعد حتى بعد انجلاء الجزء الأكبر من الجائحة لما لمسته تلك المؤسسات من فوائد تعود بالنفع على رب العمل والموظف من النواحي الاقتصادية والاجتماعية وقررت الاستمرار في مثل هذا النوع من الأعمال لما فيه من عوائد يجنبيها طرفي المعادلة، إضافة إلى أن بعض الدول في مسعى منها للالتفات للجانب الاجتماعي والاسري قررت جعل اجازة نهاية الاسبوع ثلاثة أيام لما قد يسهم إه ذلك من تحسن في اداء المؤسسات والافراد ويعطي مساحات أكبر وافضل للانجاز.
الانتقال من بيئة الاعمال التقليدية الى البيئة الحديثة التي تواكب تطلعات الدول والافراد والمؤسسات هي مطلب يسعى اليه الجميع وتطوير هذه البئئة يتطلب الاهتمام بالانسان الذي هو عماد المنظمومة بأكملها فبدلا من قضاء أوقات طويلة في طوابير لا نهاية لها يكون من الاجدى الاستفادة من ذلك الوقت في صنع أعمال وانجازات تسهم في بناء وتنمية الاوطان.
https://www.omandaily.om/أعمدة/na/نوافذ-مسارات