أعرف كثير من البشر ممن يمكن أن يتسموا بالانطوائيين فهم منعزلون عمن حولهم متقوقعون على أنفسهم لا يعنيهم ضجيج العالم ولا صخب الحياة، اختاروا أن ينأوا بأنفسهم عن البشر ويعتزلوا الكثير من المجالس ويركنوا الى الصمت والسكون ليتخذوا من العزلة ملاذا وسكنا لهم. يجدون في الصمت لذة وفي الخلوة حياة وفي الوحدة أمانا واطمئنانا وفي الاعتزال سعادة، متعتهم الكبرى في البقاء بعيدا عن الانظار والاختباء عن أعين الناس والتلذذ بالجلوس مع الذات ومرافقة ما لا يتحدث والاكتاء على بعض العادات التي تجلب له السعادة في وحدته كتقليب كتاب او الانشغال ببحث او العمل في حقل او حتى البقاء صامتا دون فعل أي شىء.
هل من يتمتع بهذه الخصال يعتبر مريضا كما يشخصه الاطباء بأنه مريض نفسي وبحاجة الى علاج أم أن الامر لا يعدو كونه الركون الى عالم السكون والدعة والهرب م ضجيج البشر والحياة؟ سؤال يشخصه أطباء السلوك بأنه مرض نفسي ان توافرت في الشخص بعض الخصائص كاعتزالهم البشر وإن أبقى على بعض العلاقات فلا تتعدى أصابع اليد الواحدة يركنون الى الصمت والسكون والهدوء والاكتفاء بالمراقبة والمشاهدة لما حولهم من دون ابداء تعليق او كلام وغيرها من الخصال التي تصنف صاحبها بأنه بحاجة الى علاجات تخرجه من صمته وانطوائتيه تلك.
بهذه الخصال وجدت نفسي عالقا في وسط الانطوائية في بعض الاحيان وليس الاغلب، لكنني أعرف من هو أشد انطوائية مني ممن يعتزل الحياة فلا يعرف فيها سوى مكان او اثنين فقط هما مسار حياته كلها يتنقل بينهما كأنهما قطع شطرنج في رقعة صغيرة، يحيط نفسه بالصمت في أغلب الاوقات وأجزم أنه لا يتحدث الا إلى نفسه أو لوحه المحمول فهو أعز اصدقاءه. عندما تسنح فرصة للمواجهة يعلق قائلا بأن الحياة هكذا أجمل.
حضرت ندوة ناقشت “آثار ما بعد الجائحة” وتعني الآثار التي خلفها وباء كورنا على البشرية وتحديدا فيما يخص الجوانب النفسية والاجتماعية للبشر، وخلص المجتمعون الى أن أحد أهم الآثار تلك هي الوحدة والانطوائية حيث عمقت الجائحة من عزلة الناس وانطوائيتهم وعدم حبهم للتجمع او الحديث والانكفاء الى العزلة والخوف من مخالطة البشر وعدم الرغبة في مغادرة المنزل للقيام بأي عمل.
عدد الانطوائيين قد زاد في العالم من حولنا لا سيما في فئات الشباب وصغار السن كما أشار أحدهم في تلك الندوة وان لم يتدخل المجتمع والاهل وذوي الاختصاص في الحد من هذه الظاهرة فان اعداد ممن يفضلون الوحدة سيزداد وهذا ما قد يؤثر على جوانب كثيرة في الحياة كالجوانب الاقتصادية والعلاقات الاجتماعية والسلوك والقيم وغيرها من الظواهر التي قد تموت بموت التجمعات البشرية.
طاف في عقلي الكثير من النماذج التي اعرفها او التي سمعت عنها عبر التاريخ ممن يوسمون بأنهم انطوائيون وانعزليون من امثال نيوتن وداروين وأينشتاين، وشوبان، والروائي جورج أورويل والمخرج السينمائي ستيفن سبيلبرغ، وبيل غيتس والزعيم الهندي مهاتما غاندي، فقلت في نفسي ان كان هؤلا قد وسموا بالانطوائية وهم من غير مسار البشرية كل بطريقته في العلم والفن والموسيقى والتقنية فقد يكون من المشجع أن يركن الانسان الى الانعزال والانطوائية ان كان في امكان عزلته أن تحقق له ما حققت لغيره.
المثل العربي يقول “ان كان الكلام من فضة فالسكوت من ذهب” ولا أحسب أن وصفا جميلا لقوة الصمت سيكون أفضل من هذا المثل ولو لا أن في الصمت الكثير من الفوائد لما فضله الاوائل ولو لا أن اعتزال الناس في كثير من الامور أفضل من الخوض معهم لما حثت عليه العلوم الحديثة التي تعنى بالنفس وشؤنها وشجونها.