لطالما تساءلت عن سر وسحر كلمة “قمة” ولماذا هي رديف دائم لكلمة النجاح والتفوق والتميز وهي من الكلمات المحببة في كل لغات العالم لوصف التفرد عن الآخرين وتأتي في أوائل الكلمات التي يقرن بها الاهداف الشخصية والعملية وكأنها السحر الذي يعكس مكانة الفرد في المجتمع ونظرة الناس اليه.
لردح من الزمان لم تكن هذه الكلمة في قاموسي ولم يكن بي شغف كبير لاستخدامها، ربما لانعدام القمم بكل مفاهيمها اللفظية والمعنوية او حتى الايحائية في حياتنا أو ربما يعزى ذلك الى ندرة استخدام هذا المصطلح في محيط الحياة اليومية المتأرجحة بين الرتابة والروتين وقد يكون السبب الرئيس الذي أميل اليه هو اقتصار استخدام هذه الكلمة على فئة او مجموعة من أصحاب النجاحات العلمية والعملية الهوايات التي تتطلب مغامرات خطيرة وكل هؤلاء لم نكن لنشاهدهم او نلتقي بهم الا على شاشات التلفزيون او في الاخبار المنشورة على الاغلفة ولم يكن لهم وجود بيننا في حياتنا اليومية.
عندما قررت تجريب هذه الكلمة وتقمصها لم أجد أفضل من قمم الجبال لتكون هي الشاهد الأوحد والأفضل الذي يعطي المعنى الحقيقي لهذه الكلمة فمنها اشتق أصل هذه الكلمة ولاحقا أخذت منها باقي الاستشهادات والكلمات المصاحبة للنجاح وقهر الذات والوصول الى الغايات والرغبات وتحقيق الأهداف ومنها بدأ الانسان الأول رحلته في الصعود الى قمم الجبال حيث استئنس حياته ومنها أيضا مأوى وملجأ الرهبنة والتنسك وفيها القرب الحقيقي والمجازي الى السماء فالقمم هي مكان مناجاة الرب والتقرب اليه.
ساعات طوال قضيتها في البحث والقراءة والمطالعة والمشاهدة عن النجاحات البشرية في الوصول الى القمم وتسلقها وقهر الصعاب وتحمل قساوات الظروف الطبيعية والمناخية حتى استطاع هذا الانسان تحقيق المستحيل بالوصول الى قمة ايفريست لأول مرة والوقوف على قمة العالم بعلو أكثر من ثمانية آلاف متر. عشت مع ادموند هيلاري وتينزينج نورجاي قصتهما المشوقة في العام 1953 في الوصول إلى أعلى قمم العالم ليفتحا الباب على مصراعيه لكل مغامري العالم بتجربة الصعود الى تلك القمة، عبرت البحر عبر مركب صيد للفقمة في العالم 1821 بصحبة جون ديفيس للوصول الى اقصى جنوب الكرة الأرضية في المكان الأشد برودة في العالم ولا يسكنه البشر حيث القطب الجنوبي ووصلت أيضا الى أعلى نقطة في العالم في القطب الشمالي بصحبة الأمريكي روبرت بيري 1856 الذي يعتبر اول انسان وطئت قدماه الأرض الجليدية في اقصى شمال العالم وكان له الفتح العظيم ليتلوه مغامري العالم ويقتفون اثره في الوقوف على قمة العالم الشمالي. سرحت بخيالي في كل قمم العالم وجباله وحسبتني وكأنني أقف برجلي على كل تلك القمم العالية من كل أرجاء العالم.
خضت كثيرا من التجارب الحياتية الموصلة الى القمم، فدربت النفس على الصبر وتحمل المصاعب والمشاق والمجالدة وتعزز ذلك بالمزيد من القراءة والمطالعة والتدبر والجلوس مع من يمتلك الدراية والخبرة والتجربة ومشيت مع من يستأنسهم العقل ويسكن إليهم القلب والفؤاد حتى حانت لحظة الانطلاق وتحدد موعد الصعود وباتت ساعة بلوغ القمة أقرب مما كانت عليه في أي وقت مضى، فبدأت علامات الطريق الدالة على القمة في الوضوح وارهاصات تحقيق حلم طال انتظاره باتت في مرمى حجر من قمة الجبل.
باتجاه الشمس كانت الرحلة والصعود الى جبل الشمس كانت الوجهة فالاسم بحد ذاته كفيل بأن يجعلك تشعر بالرهبة والرجفة والخشية والترقب فليس من السهولة الصعود الى الشمس وليس من السهولة الوصول الى أعلى القمم ارتفاعا في سلطنة عمان والخليج العربي بعلو شاهق يربو على الثلاثة آلاف قدم حين تنخفض درجة الحرارة الى ما دون الصفر في الشتاءات الماطرة وبارتفاع حاد يتطلب الكثير من المهارة في الصعود الحاد باتجاه القمة او ما يدعوه الناس بالبوصلة.
في منتصف الطريق باتت رحلة الصعود الى القمة وكأنها وهم من أوهام القمة وضرب من ضروب خداع النفس وملاحقة سراب القمة قد لا يجدي نفعا في ظل ظروف استثنائية لم يكن الاستعداد لها كافيا هذه المرة مع وعد بعودة أخرى بعد كثير من الاستعداد النفسي والبدني على الأقل على الصعيد الشخصي حتى وان كان بعض الرفاق قد استطاعوا تثبيت ارجلهم فوق القمة وانتشاء الفرح واستجداء النجاح.
دروس كثيرة تعلمتها من سرابات القمة فبقاءك بين الحفر كما قال أبو القاسم الشابي لن ينفعك ومناجاة الحبيب لمحبه تكون أجمل والطف فوق السحاب والعيش بقليل من متع الحياة وملذاتها يكون وأنت بعيد عن قيعان المدن وقساوة الصخر ما هي الا تعليم لشدائد يحتاج اليها الانسان في حياته وقليل من الزاد يقيم به الانسان صلبه خير من كثيره الجالب عليه اعتلال وسقم وكثير من الدروس قد لا تفيها هذه المساحة حقها.
https://anchor.fm/abdullah-al-shueili/episodes/ep-e1bf6rl