وصف الكثيرون الجنازة المهيبة للملكة اليزبيث الثانية بأنها «جنازة القرن» وأن العالم لم يشهد خلال تاريخه جنازة تماثلها في الضخامة من حيث الترتيبات والبرتوكول المرسوم بدقة وعناية كبيرة لتفاصيل أول يوم من وفاتها وحتى مواراتها الثرى بعد عشرة أيام من الوفاة، وكما يقال فإن الملكة الراحلة هي من أشرفت بنفسها على مراسم جنازتها مع رجال الدين والعسكريين والأسرة الحاكمة ولم تترك احتمالات لحدوث أي أخطاء أو تجاوزات في الجنازة.
هذا ما أسماه بعض المراقبين بالقوة الناعمة للملكة الراحلة وللملكة المتحدة حيث جذبت جنازة الملكة أنظار العالم أجمع وشغلت وسائل الإعلام خلال عشرة أيام وكانت الأنظار كلها متجهة إلى المملكة المتحدة تتابع مراسم تأبين الملكة وانتقال نعشها من منطقة لأخرى لإلقاء النظرة الأخيرة عليه إلى جولات الملك تشارلز الثالث في المقاطعات البريطانية وتنصيبه ملكا على المملكة المتحدة والكومنولث واختيار ابنه الأمير وليام لولاية العهد وغيرها من الأمور التي سرقت الأضواء وشغلت الناس خلال الأيام العشرة الماضية.
القوة الناعمة وهي ضد القوة الخشنة أو الصلبة التي تستخدمها الدول والمجتمعات وحتى الأفراد باعتبارها الوسيلة الأبرز والأجدى في معالجة كثير من الأمور بدل اللجوء إلى القوة والعنف في معالجة الأمور وتعطي نتائج أكثر إيجابية من القوة التي يتم استخدام العنف فيها. ولعل أول من ينسب إليه استخدام هذا المصطلح هو جوزيف ناي أستاذ العلوم السياسية عندما عرفها أنها «القدرة على الحصول على ما تريد عن طريق الجاذبية بدلا من الإرغام أو دفع الأموال، وهي تنشأ من جاذبية ثقافة بلد ما». ولعل كتابه الذي يحمل ذات الاسم «القوة الناعمة: وسيلة النجاح في السياسة الدولية» والذي شخص فيه المنهج والطريقة التي يمكن للدول استخدام القوة الناعمة فيها.
وسائل الإعلام هي الوسيلة الأبرز والأقوى لإظهار القوة الناعمة لأي بلد بالإضافة إلى الثقافة والفنون والآداب والدبلوماسية والعلاقات الدولية وغيرها من العناصر التي تظهر فيها القوة الناعمة ويمكن لأي دولة استغلال مصادر قوتها في هذه العناصر للتأثير على الآخرين وخلق انطباعات إيجابية عن بلدانهم مما يعود بالفائدة على الجوانب الاقتصادية والسياسية والعسكرية والسياحية ويسهم في تعزيز الصورة الإيجابية للبلدان بدلا من الصور السلبية.
تتنافس الدول اليوم في استخدامها للقوة الناعمة لدرجة أنه تم استحداث مؤشر عالمي (المؤشر العالمي للقوة الناعمة) تتنافس فيه دول العالم أجمع في استعراض قوتها من خلال بعض المؤشرات الإعلامية والثقافية والحضارية التي تحدد حجم وقوة ومستوى الدولة في استخدامها لهذه القوة وفي مؤشر العام الفائت حصلت ألمانيا على المركز الأول في هذا المؤشر باعتبارها الدولة الأكثر تأثيرا ثقافيا وحضاريا ومعرفيا.
بالعودة إلى الملكة التي رسخت خلال فترة حكمها الممتد لأكثر من 70 عاما الملكية في العالم واستطاعت المحافظة على الأعراف والتقاليد الملكية في زمن تخلى العالم فيه عن الملكية وأعرافها وكل ذلك يعزى إلى الملكة الراحلة التي استطاعت بقوتها الناعمة الحفاظ على كثير من الإرث البريطاني وضمان انتقاله بسلالة إلى خليفتها ابنها الملك تشارلز الثالث الذي تعهد بصون الإرث العريق للملكة المتحدة ولوالدته.
جريدة الجارديان البريطانية وصفت الملكة اليزابيث أنها كانت سيدة ذات قوة ناعمة، تعرف متى تبدو في هيئة من الجلال الملكي التام ومتى تلعب دور الجدة الرؤوم، ومتى تكون مرجعا دبلوماسيا فريدا من نوعه، وهذا ما يسمى بالقوة الناعمة والاستغلال الحسن لها.
أصبحت كثير من دول العالم تقتنص الفرص لإظهار قواها الناعمة خصوصا في عصر الفضاءات المفتوحة والإنترنت والسوشيل الميديا ووسائل الإعلام المختلفة ولا تتردد في استخدام هذه القوة سواء أكان ذلك في مظاهر الفرح أو الحزن أو الحرب أو السلم، فالتخطيط الجيد لهذه القوة هو ما يضمن إيصال الرسالة بفاعلية أكثر وهذا ما نجدنا بحاجة إليه أكثر في هذه الأيام.
https://www.omandaily.om/أعمدة/na/نوافذ-القوة-الناعمة-وجنازة-الملكة