جثة جديدة، ميت جديد، قبر جديد ويوم جديد هذه باختصار هي أضلاع حياتي التي أعيشها واعتدت عليها؛ أجني رزقي من موت إنسان فأنا على عكس العالم كله أفرح بالموت واحتفي به ويرقص قلبي فرحا عندما أسمع أن فلانا إنتقل الى رحمة ربه فأحوقل قليلا وأردد ” كل نفس ذائقة الموت” ثم أصفق باب غرفتي الملاصق لمكان عملي في المقبرة وأحمل عدتي على ظهري متوجها إما الى الشرق ان كانت الوافد الجديد صبيا صغيرا أو غربا إن كان الزائر شابا أو كهلا لا يهم الجنس أذكرا كان أم أنثى فالكل عند الله سواسية في القبر.
يتحدد مقدار الحفرة التي أحفرها عمقها وطولها وعرضها بمعرفة المتوفي وهذا لا خوف منه فأنا أعرف كل فرد في القرية صغيرها وكبيرها حتى مواليدها الجدد أعرفهم فردا فردا؛ البارحة حفرت حفرة صغيرة دفن فيها صبي لم يكمل شهره الاول ولد بعاهة لم يعرف حتى الطبيب علاجا لها اصفرار في الوجه وازرقاق في العينين؛ ولد كما قالت أمه بلا سمع أو بصر؛ كانت ساعة وفاته محققة في أي وقت وهمس لي والده بذلك سرا لكني تجاهلت الأمر ولم أعره انتباها لان حفرة صغيرة لطفل رضيع لن تأخذ من وقتي الا كما أشرب فنجان بن أسود أصنعه في ركوة القهوة في مطبخي الصغير الملحق بغرفة المقبرة. أكبر حفرة حفرتها ولا زلت الى الساعة أذكر تفاصيل إرهاقها كانت لسعيد بن مسعود رحمة الله عليه فأنا أعرف المرحوم وطوله الفارع وجسده الممتلىء وساقاه الطويلتان اللتان كان يلقب بسببهما بالزرافة؛ لكن إرهاق هذه الحفرة كانت في وقت وفاة سعيد الطويل فقد كانت في ساعة الظهيرة وقت القيلولة عندما تتعامد الشمس وتصبح فوق قمة الرأس ولا داعي لأخبركم عن حرارة صيف المقبرة الصاهد التي لا تنبت فيها نخلة ولا يستظل تحتها إنسان حيث يرفض الناس هنا رؤية اي شىء أخضر في المقبرة فهي يجب ان تبقى غبراء لتذكرهم بوقت حشرهم ووقوفهم أمام خالقهم؛ مرة قال لي خلفان أن مقابر الدولة التي درس فيها علومه الجامعية خضراء وأكثر تنظيما من مقبرتنا مضيفا مع ضحكة خفيفة منه أن الشقاء قد كتب علينا في الحياة وحتى في الممات. سعيد الطويل ذاك الْيَوْمَ خرج مع باقي قطاعي العوم لتنظيف وخدمة الفلج رجعوا كلهم سالمين باستثناءه فقد فقد حياته بعد ان انهار عليهم سقف الفلج الذي كانوا يخدمونه؛ ثلاثة منهم نجاهم الله اما سعيد فقد غادرت السعادة بيته بعد ان انتقل الى جوار ربه؛ اُذيع خبره في قائلة صهداء لا يمكن أن تمشي فيها ترابها حافي القدمين؛ حملت معولي وفأسي وبدأت في حفر بيت لسعيد؛ الارض تعاونت مع الشمس ضدي لم ينغرس فاسي في الارض اليابسة سقيتها رطبتها بدون فائدة حاولت مرارا وتكرارا حتى لانت الارض قليلا لكن الشمس فوق رأسي لم تلن؛ خفت على نفسي أن اسقط أنا في الحفرة التي أحفرها وأدفن بدلا من سعيد رشتت على جسمي ماء ساعدني قليلا على إكمال البيت حتى وصلت الجثة التي كانت مقاس سعيد عليها قصيرا فاضطررت الى إكمال الحفر بتوسعة الحفرة من الجانبين؛ تمنيت ذلك الْيَوْمَ على غير العادة أن سعيدا حيّا لم يمت وتمنيت أن ينتخي مشهد دفنه بأقصى سرعة ممكنة.
***
الظلام يلف المكان ويطوقه ولا أحد يفكر بعدما تسدل الشمس أستارها ان يقترب من المقبرة؛ أنا الحي الوحيد في هذه البقعة من الارض أحرس أمواتا لا ادري هل أخاف عليهم من العودة للحياة أو من غدر الأحياء اللذين يرهبون حتى من ذكر اسمها؛ استبدلوها بكلمة المدينة بدلا من المقبرة فهي بالنسبة لهم ألطف وقعا من مقبرة لكنها هي مدينة للموتى ولا يسكنها حي غيري.
قبل نومي أقف على القبور أعدها قبرا قبرا وأكلم أصحابها كلاما ربما يكون بعضا منه قد سمعوه مني وهم فوق الارض بعيدين عن هذا المكان؛ اخاطب فيهم ارواحهم وأسالهم عن احوالهم وانقل اليهم ما جرى من بعدهم لأهلهم وجيرانهم وزوجاتهم؛ قبل يومين وقفت على قبر خديجة بنت عُمير لاخبرها أن زوجها مسلم قد تزوج من بعدها بعمتها رقية؛ شعر زوجها كما يقول بالوحدة من اول شهر فارقت فيه حياته؛ حدد موعد زواجه الجديد الشهر المقبل؛ أخبرتها عنه قوله لأهل القرية انه لا يرضى بيديل عنها لكن الحياة يجب ان تستمر وانه اختار رقية لتذكره بالمرحومة؛ أخبرت أيضا جارتها سلامة التي تجاورها القبر من أن ابابها قد ضم أملاكها التي ورثتها عن زوجها الذي سبقها الى هذه المدينة من دون حتى أن ينتظر حكم حمد بن محمد القاضي فهو كما قال بأنه الوريث الوحيد لابنته وهو من سيتكفل برعاية ابنائها الأيتام من بعدها.
في مرة من المرات رآني طفل سعيد الطويل عند الفلج وأوصاني أن اسلم على أباه وان اخبره ان أمه قد تزوجت عمه وانه لا يحبه أبدا وأخبرني أن اوقضه من نومته ان استطعت؛ في تلك الليلة وقفت عند القبر الذي أضناني حفره فسلمت على صاحبه وأخبرته بكل ما قاله لي طفله من كلام شعرت انا نفسي بارتياح كبير من إيصال الرسالة كاملة الى صاحبها وشعرت بان سعيد يكلمني ويوصيني بأن أرد سلام ابنه وان أقنعه ان يتعايش مع عمه لانه طيب القلب مثله.
***
انا على هذا الحال منذ أمد طويل أقف بين الحياة والموت لا يفصلني عنهما سوى مسافة قصيرة؛ اعتدت العيش مع الأحياء والأموات وان كانت نفسي تتوق الى جيراني الأموات في المدينة؛ هم لا يشتكون شيئا ولا يتذمرون ولا يبدون أي اعتراض على أي شىء؛ يرحبون بي متى ما زرتهم في بيوتهم؛ ينصتون لي متى ما تكلمت معهم؛ لا يعاتبون ان تأخرت في الزيارة ولا يحتجون ان قضيت ليلي مع رجل أو امرأة أو طفل صغير؛ لا يجاملون أو يمدحون لا يغتابون أو يلوكون في سير من يعرفون ومن لا يعرفون هم صامتون طوال الوقت فقط يستمعون بصمت الى من يناجيهم؛ أرى في بعض النهارات نسوة يتجهن الى قبور بعضا ممن يحببن؛ يحملن فوق رؤوسهن جرارا من الخزف يضعنها بين يدي عزيزهن؛ يبدأن بالدعاء ورفع الأكف الى الله ان يحفظ عزيزهم وأن يدخله في رحمته وينتهين بالندب واللطم والشكوى من الدنيا وما فيها؛ بعضهن يملن الى غرفتي ليقاسمنني بعض ما يحملنه في رؤوسهن ويوصينني بأن ارش الماء على بيوت أعزائهن عند اشتداد الحر.
***
يوم جديد وخبر جديد لكنه ليس ككل الايام ولا ككل الاخبار، يوا م لم أفرح مثله طوال حياتي وخبر لم أتلق أسعد منه مذ وطئت قدماي أرض هذه المقبرة، خبر موت مسعود بن مسلم المسكين الذي رحل عن هذه الدنيا في خريفه الثلاثيني لم يشبع من الدنيا بعد ولم تشبع هي منه ايضا، ولكنها الحياة هكذا لا يؤمن جانبها، رحل مسعود وهو بكامل صحته وقوته وعافيته، كان في ارضه خارجا من بيته كعادته الصباحية بعد تناول القهوة مع جيرانه، وجدوه ملتحما مع تراب أرضه لاثما اياه وجهه معفر بتراب مزرعته وكأنه أراد أن يقول جملته الاخيرة أننا معشر البشر من التراب واليه نعود، وجده جاره سلمان الذي اعتاد أن يحمل اليه القهوة والتمر منتصف النهار، حمله الى بيته جثة هامدة وأعلنوا خبر موته السعيد.
سمعت الخبر كغيري، جهزت عدتي وذهبت بابتسامة عريضة وفرحة غامرة رقص لها قلبي، قررت أن أختار لحدا من أفضل اللحود في المدينة، وقعت عيناي على أجمل مكان في المدينة كلها، ربما كنت أدخره الى هذا اليوم وهذه الساعة للمميزين من الموتى، تحت السمرة الكبيرة يوجد مكان ظليل لا تطاله شمس القائلة وينام صاحبه نومة هنيئة طيلة مماته، تشرق عليه الشمس الناعمة مع أول خيوطها لتسلم عليه ثم تزاور عنه، لم أجد لمسعود رحمه الله مكانا أفضل من هذا المكان لترقد روحه فيه ولتهنأ بالامن والسلام والطمأنينة، تفانيت في حفر هذا البيت وتجميله ورش الماء تحته واخترت له طينا لينا ليرقد فيه ووضعت تحت رأسه طفالا عريضا لتتوسده روحه الراقدة في السماء.
ها أنا ذا أراهم من بعيد يحملونه على أكفهم، جنازة مهيبة وبشر كثيرون على مد البصر يشيعون مسعود جاءوا من كل حدب وصوب بعضهم يبكي متأثرا من وقع الخبر وبعضهم يفتعل البكاء والبعض الاخر ألهته دنياه عن الجنازة ، الشمس تميل الى المغيب وأنا أقف على يسار السمرة الكبيرة، الصفوف تقترب مني رويدا رويدا ترفع مسعود فوق رؤسها وكأنها تدعو السماء أن تتلقفه منها، يصلون هم لتبدأ مهمتي في اسكانه في بيته الذي حرصت على تأثيثه وتجميله، ألقي نظرة وداع أخيرة على الرجل الذي سبقني الى قلب من حلمت بها زوجة لي، ذلك اليوم رفضني أبوها بحجة أن مسعود هو أفضل مني في المال والوظيفة والمكانة، باءت كل محاولاتي بالفشل لامتلام قلب سعادة لكن مسعود كان الاقرب اليها مني.
التقت عيناي بعيني مسعود فابتسمت له، قلت له بصوت خافت: اليوم ستعيد سعادة السعادة الى قلبي بعد أن أسعدتك دهرا، أنزلته الى مثواه الاخير وضعت الطفال اليابس فوقه وأمرت الناس بحثو التراب عليه.
” صلوا على رسول الله، غفر الله له وأسكنه فسيح جناته، إنا لله وإنا اليه راجعون”
عزيت أباه المسن في مصابه، هو لم يقو على المشي بسبب وهن أصاب رجليه من الشيخوخة ومن الفاجعة التي أصابتها بفقد وحيده، تمتم بكلمات دامعة وتركني خلفه واقفا أناظر القبر المبلل بالماء المظلل بالسمرة المباركة.
رجعت الى بيتي بعد انصراف الجمع، عقلي منشغل بسعادة وابنها الصغير سيف، تزاحمت الاسئلة الصعبة في عقلي . هل ستعود السعادة الى قلبي بعد أن فارقته ردحا من الزمان؟ هل سترضى أن تعيش معي في هذا البيت وهذه المقبرة أم سأنتقل أنا الى بيت المرحوم مسعود وأنام في فراشه؟ هل سيرضى بي سيف أبا بديلا عن أبيه الهالك؟ وكيف سأربيه وأعوضه عن حنان الاب الذي فقده في صغره؟ هل ستتغير حياتي بعد هذا اليوم وسأترك مهنة أبي الى غير رجعة لاجد لي مهنة أو حرفة أخرى غير دفن الهالكين؟ أيقظني من زحمة هذه الاسئلة صوت داخل عقلي يأمرني أن أكون بجانب صهري مسلم بن سالم في هذا الوقت المأزوم وأن أقف بجانبه في مصابه عل هذه الوقفة تكون شفيعة لي يوم اذهب لخطبة ابنته بعد ثلاثة أشهر ونصف.