بين مفهومي المواطن العالمي والمواطن المحلي تنشطر الدول والمجتمعات وحتى الأفراد إلى شطرين، أولهما المتبني والمحتضنلمفهوم العالمية بشتى أشكالها وصورها وأدواتها التي تتجلى في السماوات المفتوحة والتكتلات السياسية والاقتصاديةالمنفتحة على العالم والتطور التقني والعلمي والمعرفي والاقتصادات العابرة للقارات وتحرير الأسواق والتواصل الحضاري بيندول العالم وقاراته إضافة إلى تقاطع المصالح المشتركة بين الدول لا سيما في الكثير من القضايا الدولية التي تمس العالم بأكملهمثل قضايا التغير المناخي والحفاظ على البيئة وصون الطبيعة والقضاء على الفقر والقضاء على الأمراض مثل شلل الأطفالوالحصبة والملاريا وغيرها من القضايا التي تقود دفتها الهيئات والمنظمات الدولية مثل الأمم المتحدة التي تضم في عضويتهاكل دول العالم قاطبة.
أما الشطر الثاني من هذه المعادلة فهي شطر المواطن المحلي أو المواطنة المحلية التي لا تزال محافظة على حدودها الجغرافيةوالسكانية والاقتصادية والاجتماعية من دون رغبة حقيقية في مغادرة هذه الدائرة وتتجلى بعض صور هذا المفهوم فيالاقتصادات المحلية والرغبة في الإبقاء على النظم السياسية المحلية في الإدارة والانعزال عن المشاركة في قضايا العالم ومشاكلهوالصراعات العرقية بين الأقليات المختلفة والحد من السفر والهجرة وفتح الحدود وعدم التسامح مع الغير والعديد من الصوروالمفاهيم التي تكرس مبدأ ما اصطلح على تسميته بالشعبوية والقومية التي تحاول الارتداد إلى الذات والتقوقع على النفس.
بين الفكرتين ينشأ الخلاف ويدب الشقاق بين الأنصار فأتباع فكرة المواطن العالمي يعتقدون بأنها فكرة أفلاطونية يوتوبية مثاليةتصلح للتطبيق في كل دول العالم لاشتراكها في ذات المصير والمآل تحت سقف سماء واحدة وأرض واحدة ويتشارك العالموأفراده تحمل ذات المسؤولية في المحافظة على الكوكب وصونه، وبين معارضي هذه الفكرة ممن وصفوها بالشيطانية والمجنونةفي أن أنصار هذا الاتجاه يميلون إلى عولمة العالم وجعله قرية واحدة مع إذابة العادات والتقاليد والقيم والأعراف والأديانواللغات وحتى إذابة الأعراق وعولمة الكثير من المسائل الشائكة محل الخلاف بين الدول لا سيما بعض المشكلات المتعلقةبالاختلافات بين الأجناس وإلغاء الحدود السياسية بين الدول وغيرها من الأمور التي يراها أنصار هذا الرأي بأنها أفكارإبليسية تهدف إلى تمييع الدول وتسهيل التأثير عليها وغزوها فكريا وثقافيا ومعرفيا وحتى سياسيا وانتزاع واستلاب الإرادةالسياسية والاقتصادية لهذه الدول.
أعود هنا لازما لسوق تعريفات للمصطلحين لا سيما لمفهوم المواطنة العالمية الذي عرفته بعض المراجع بأنه “الإنسان الذييستطيع التفاعل على مستوى عالمي مع أي شخص مهما اختلفت ثقافته وموطنه” وهي المواطنة العابرة للحدود الجغرافيةوالسياسية والتي تؤمن بوحدة الحياة على كوكب الأرض، وأيا كانت التعريفات المساقة لهذا المفهوم فهي لا زالت غير واضحةوضبابية ومحل خلاف حتى مع الفريق الآخر المعارض لها الذي يسهل بالنسبة له تعريف المواطن المحلي أو المواطنة المحلية كماعرفها المجلس الأوروبي باختصار هي عبارة عن العلاقة القانونية بين الفرد والدولة لكل منهم حقوق وعليه واجبات.
هنالك نماذج يمكن القول عنها بأنها ناجحة في الترويج لفكرة المواطنة العالمية وبدأت هذه النماذج في تلمس أهدافها من خلالالتكتلات السياسية والاقتصادية وحتى العسكرية مع تحقيق بعض النجاحات في خلق وترسيخ وتكريس مفهوم المواطنالعالمي مثل نموذج الاتحاد الأوروبي الذي يضم 28 دولة بتعداد سكاني يبلغ 510 ملايين نسمة انصهروا كلهم في بوتقة واحدةهي المصلحة الأوروبية والقيم الأوروبية المتمثلة في التسامح والتكاتف والحماية المجتمعية والأسرية والإنعاش الاقتصاديوالدفاع وحماية الأقليات وغيرها من القيم التي تسعى أوروبا والاتحاد الأوروبي إلى الإبقاء عليها ونشرها في العالم أجمع، كماوأن بعض الاتحادات السياسية والاقتصادية في العالم أجمع تعتبر من النماذج الجيدة لترسيخ مفهوم المواطنة العالمية وإن كانالبعض ينظر إليها بأنها تكريس لمفهوم المواطنة الإقليمية بدلا من المحلية لكن في صورة أكبر.
مفهوم المواطنتين المحلية والعالمية لا يزال يراوح مكانه بين مد وجزر معتمدا في ذلك على المناخ السياسي والاقتصادي السائدفي العالم ففي أوقات الرخاء والسلم والاستقرار يكثر الحديث عن مناخات المواطن العالمي العابر للقارات وما إن تتبدل أمورالعالم إلى الحروب وعدم الاستقرار السياسي والاقتصادي وتهب العواصف السياسية بين الدول تنكفئ الدول على ذاتها لترفعشعار ومفهوم المواطنة المحلية التي تجدها فيها ذاتها محمية ومحصنة من أية تدخلات خارجية.