عندما سألني صديق عن ترشيحات لكتب يمكنه قراءتها والاستمتاع بها، قلت له أنصحك ب” أنا قادم أيها الضوء” لمحمد أبو الغيط وعندما أسهبت في سرد تفاصيل الكتاب بدى على وجهه علامات الحزن والاكتئاب قائلا أنه يفضل الكتب التي تتحدث عن الحياة وجمالها لا عن مآسيها وأحزانها ولحظاتها الأخيرة كما فعل أبو الغيط في كتابه الذي يمكن أن نسميه كتاب وداع للحياة.
أحببت هذا الكتاب لعدة أسباب اولا لانه كتاب سيرة ذاتيه يسرد فيه كاتبه الصحفي سيرة حياته التي عمل خلالها في عدة صحف ووسائل اعلام مصورة وكتب الكثير من المقالات والتحقيقيات المثيرة للجدل وانتقل من مصر الى المملكة المتحدة بسبب حبه وشغفه لعمله الصحفي خصوصا الصحافة الاستقصائية التي ألهمته الكثير من القصص والتجارب للكتابة عنها حتى اللحظات الاخيرة التي شخص فيها باصابته بمرض السرطان في منتصف العام 2021 وخضوعه لعمليات جراحية كثيرة وعلاجات كيميائية ونفسية استمرت معه طويلا حتى وفاته في ديسمبر 2022. والامر الآخر الذي حببني في الكتاب وكاتبه انه يقع في خانة كتب ” المودعين” الذي كتبوا سير حياتهم قبيل وفاتهم مثلما فعل الشاعر الفلسطيني حسين البرغوثي في ” سأكون بين اللوز” والكاتبة الجميلة رضوى عاشور في ” أثقل من رضوى” وقبلها كنت قد قرأت كتابا بعنوان ” المحاضرة الأخيرة” ل راندي باوش الذي أرسى تقليدا بالقاء محاضرة على الناس اسماها المحاضرة الاخيرة تكون بمثابة آخر لحظات الوداع ويسطر فيها ما تعلمه في الحياة مع اسداء بعض النصائح المتعلقة بالنفس والعلاقات الاجتماعية لللعيش بصفاءوحب.
المفارقة في كتاب أبو الغيط انه هو في الاصل طبيب تخرج من كلية الطب بأسيوط وامتهن الطبابة لفترة قبل ان يغويه بريق الاعلام والصحافة، لهذا يلحظ القارىء بأن الكتاب حافل بالكثير من المصطلحات الطبيبة التي تشخص المرض والادوية المعالجة له وفي ذات الوقت يعيش كل لحظات الالم والاكتئاب مع الكاتب ليحس بأنينه ووجعه وسعادته وحزنه لحظة بلحظة في قالب من السرد الجميل قلما يستطيع كاتب أدبي مشبع بالخيال الخصب ان يصفه لقرائه من دون أن يتعمق في تشخيص المرض والادوية والعلاجات او طبيب متمرس يركن لنتائج الفحصوصات والمختبرات ويعجز عن التعبير عن المشاعر والاحاسيس ووصف الالم والمعاناة، فهذا الكتاب “رغم الحزن السائد على أغلب مواضيعه” الا أن ابو الغيط جمع فيه خلاصة تجربته الطبية كطبيب معالج متمرس في الطب والعلاج وبين الكاتب والصحفي والروائي الحاذق الذي استطاع ايصال كثير من رسائل المرضى ممن يعيشون آلام واوجاع واحزان آخر ايام حياتهم.
الكتاب كما هو كتاب سير يومي هو ايضا كتاب ينتقل فيه الكاتب الى سرد بعض الاضاءات التاريخية والحضارية سواء التي عاصرها بنفسه مثل احداث الربيع العربي او التي عاصرها بعض من اقاربه في فترات متلاحقة تمتد ما بين عواصم عربية واخرى عالمية على فترات طويلة تمتد من طفولته وشبابه وزواجه وعلاقته بزوجته اسراء وابنه وعلاقته الوثيقة بابيه وامه وأب زوجته وبعض من اصدقائه المقربين او ممن ارتبط بعلاقات صحفية معهم على مر تاريخه الصحفي.
قد لا أكون سمعت باسم احمد أو الغيط قبل وفاته لكنني عرفته جيدا بعد وفاته خصوصا بعدما قرأته كتابه وقرأت حجم الحب والود الذي يكنه له الناس فالجميع عند وفاته نعاه بنعي مؤثر حزين خصوصا انه توفي وهو لا يزال في ريعان شبابه في منتصف الثلاثين من عمره ولكنه وكما قال الراحل من قبله الكاتب أحمد خالد توفيق ان الموت “يختار أفضل من فينا؛ لأنهم نجحوا في الامتحان مبكراً فلا داعي لوجودهم هنا” وحتى وان رحل أفضل من فينا فاننا على يقين بان الكتابة وكما يقول عنها ابو الغيط في كتابه هذا أنها ” ببساطة تمنحه شعورا أفضل وانها تمنح البشر للمرة الأولى جانبا ولو محدودا من ذلك الحق الإلهي في الخلود”.