يرن منبه الهاتف للاستيقاظ لصلاة الفجر وترن معه رسائل الفجر عبر الواتساب، بعين نصف مغمضة اناظر الوقت فأجد أن أذان الفجر لم يرفع بعد! اساءل نفسي وهي شبه نائمة هل هذا وقت مناسب للتراسل كي يبدأ الناس صباحهم به؟ أم هي عادة درجت لدى البشر بتطبيق مبدأ التسابق في كل شيء حتى وان كان التسابق في المذموم؟ أم انه الإدمان على الهاتف في كل وقت ومحاولة تتبع كل شيء ..
أرى كثير ممن حولي وقد تحولوا الى مدمنين ومتعاطين لعقارات السوشيل ميديا وتطبيقاتها يتنقلون من منصة لاخرى يتصفحون هذا ويردون على ذاك يدخلون في جدل حول قضية مثارة تشغلهم ليوم أو أقل ثم ينتقلون بعدها الى قضية أخرى، يشاهدون مقاطع قصيرة لموضوع معين ويصنعون محتوى أيا كان شكله ومضمونه في منصة اخرى، يراقبون كل حركة واعجاب وتعليق وثناء وذكر، ليمر اليوم بأكمله منذ طلوع الشمس وحتى الغروب في اهدار الوقت والحياة في ما لا يعود في الكثير منه بالفائدة على الذات او المجتمع.
جربت قضاء يوم كامل في ساحات وحارات السوشيل ميديا لاختبار الحياة الافتراضية كيف تكون هذه الحياة وفيم يقضي سكان هذه الحارات يومهم وما الذي يمكن أن أتعلمه منها وما يمكن أن اتعرض له بقصد أو بغير قصد والفوائد والمساوىء التي يمكن أن أجنيها في ذلك اليوم من بقائي وتنقلي في تلك المنصات.
عقب هذا اليوم وبعد عودتي من تلك العوالم وجدتني ولوهلة غريبا عن واقعي الذي اعيشه، عن أصدقائي الذين اعرفهم، عن اهلي المحيطين بي، عن جيراني. حياة أقل ما توصف بأنها متطرفة في كثير من تفاصيلها، تارة تجدها وردية زاهية براقية الجميع فيها يظهر أحسن ما فيه ويلبس احسن ما لديه ويتباهي بأفضل ما يملك ويتفاخر بما يأكل ويشرب ويسرد تفاصيل يومه مع اهله واسرته واطفاله وعمله ويتحدث بلسان عذب جذاب عسلي المنطق.
وتارة اخرى تجدها قاتمة سوداء كل ما فيها مصائب وكوارث ومشاكل وحروب ودمار وخراب وتذمر وتأفف واستهجان وكأن نهاية العالم ستكون غدا والدنيا قد اصبحت سوداء مظلمة لا يرتجى لضوء خافت أن ينير دروبها. وبين هذا وذاك تتأرجح كفة بعض الحارات وبعض الساكنين بين الواقعية المجردة والفلسفة الطوباوية اليوتوبية التي تتخيل مثالية الانسان وكماله وان لم تكن في واقع الحياة الحقيقي لكنها في واقع الحياة الافتراضي.
تعلمت الكثير من هذا اليوم وفي هذا اليوم، تعلمت من الناجحين كيف نجحوا ومن الفاشلين كيف فشلوا ايضا، تعلمت وتعرفت على مهارات لم أكن اعرفها او اتقنها في يوم ما، تعلمت كثير من الفضائل في الاخلاق وفي التربية وفي الذات وفهم الانسان والحياة، تعلمت كيف اقضي يومي وغدي وكيف اخطط لمستقبلي وكيف أبني ذاتي بنفسي وتعلمت أشياء قد لا تتسع هذه الاسطر لذكرها.
غير أن خلاصة تجربة ذلك اليوم كانت أنك انت ذاتك من يقرر ماذا يريد ومتى يريد وكيف يريد فلا سلطان عليك وانت ساكن في بيوت منصات التواصل فأنت رقيب ذاتك وتعرف كيف تقطف ثمار ما تزرع وكيف تستفيد مما تبحث عنه وتتعرض اليه وتعرف ايضا كيف تستعد للمستقبل الذي يخبىء في طياته الكثير من المفاجآت فما نعرفه اليوم من منصات حتما سوف يتغير غدا لتأتي بعده منصات هي أكثر انفتاحا وأكثر واقعية وأكثر تفاعلية كما بشرنا البعض من أن الجيل القادم سيكون جيل الميتافيرس القائم على العالم الثلاثي الابعاد والبيئات الافتراضية والاتصالات المتطورة وأشياء لا نعلم بعد عنها الكثير.