شدني خبرًا قرأته في أحد المواقع الإلكترونية عن مراهق أمريكي قام بتصميم موقع إلكتروني لتتبع الحالات المستجدة عن فيروس كرونا التاجي عالميًا وحظي بمشاهدات يومية عالية وصلت إلى ثلاثة ملايين مشاهد يوميًا.
استمعت إلى هذا المراهق ذي السبعة عشر ربيعًا وهو يحكي تجربته التي بدأها في نهايات العام الماضي عند بداية انتشار الفيروس في الصين وكيف أنه فكر في استغلال معرفته البسيطة بتصميم أول موقع إلكتروني لتتبع حالات كورونا وحلمه بأن يكون موقعه هذا تأسيسًا لمنظومة أكبر لاستشعار الأوبئة والأخطار حول العالم.
لا أدري ساعتها لماذا قفز إلى ذهني تساؤل أزلي قديم عن فكرة بقاء واستمرارية وسائل الإعلام سواء بصورتها الحالية أم بصورها المتطورة المتجددة وكم من الوقت قد يستغرقه هذا التحول الجديد، وأرجعتني هذه التساؤلات إلى السؤال الأهم عن البدايات الأولى لاستخدام تلك الوسائل لاكتشف أنها لم تكن في الأساس مخصصة كمنابر للإعلام والنشر لكن تم تطويعها لهذه الأغراض فمثلًا لم يكن في فكر غوتنبرغ عندما قرر أن يخترع مطبعته منتصف القرن الرابع عشر الميلادي أن تكون لطباعة جريدة لكنه اخترعها لطباعة الكتب (الإنجيل) في الأساس ثم استغلت تلك المطبعة بعد ذلك لطباعة الصحف، وهو ما حصل مع ماركوني عندما أرسل أول رسالة لاسلكية للتواصل بين سفينتين في عرض البحر حيث لم يكن همه في الأساس اختراع المذياع لكن موجاته تلك تم تطويعها لتقود لاختراع المذياع وسفر الصوت الإنساني عبر الأثير، وتكرر الأمر مرة أخرى مع شبكة الإنترنت التي كانت في الأصل مخصصة للأغراض الدفاعية العسكرية قبل أن تصبح وسيلة عملاقة للإعلام حتى وسائل التواصل الحديثة ما كانت سوى فكرة التقاء طلبة الجامعة للحديث فيما بينهم قبل أن تصبح اليوم منابر إعلامية حديثة تنافس المنابر التقليدية.
لنستعير قليلا مصطلح (النشوء والتطور) مقابل النشوء والانقراض لنختبر بها بقاء وسائل الإعلام وتطورها أو زوالها، وهنا يمكن الاستناد والاتكاء على بعض الأدلة والبراهين التي تثبت أزلية بقاء وسائل الإعلام واستمراريتها أو ما يمكن التكهن به من إرهاصات قد تقود إلى إجابات تتنبأ بانحسار موجة بعض الوسائل الإعلامية.
ولكن قبل الخوض في هذا الجدل الطويل لنحاول تقريب العدسة وتكبير الصورة في محاولة لتبسيط مفهوم ومعنى الوسيلة الإعلامية على الأقل كما عرّفها عالم الاجتماع الأمريكي هارولد لاسويل بأنها تشتمل على مرسل ومستقبل ورسالة (من يقول ماذا وبأي وسيلة ولمن وبأي قصد) وعند تقريب الصورة من هذه المعادلة يمكن تجاوزًا القول بأن مصطلح الوسيلة الإعلامية قد يطلق على أي وسيلة توافرت فيها هذه العناصر إضافة إلى عنصر الانتشار، ويمكن قياس ذلك اليوم على ما يبث من رسائل في وسائل الإعلام التقليدية (الصحف والإذاعة والتلفزيون) أو ما تبثه مواقع الإنترنت ومواقع التواصل الاجتماعي وتطبيقات الهواتف المحمولة وما يمكن أن يقاس عليها من وسائل قد تظهر في المستقبل.
بهذه الفلسفة قامت وسائل الإعلام وازدهرت وبهذه الفلسفة أيضا يمكن أن تختفي إن اختل عنصر من عناصر هذه الرسالة الإعلامية، ولا أريد هنا التعمق في البحث الأكاديمي عند الحديث عن هذه الفلسفة ولكن لتبسيط الأمر قليلا يمكن القول إن وجدت وسائل الإعلام جمهورها الخاص بها فيمكنها الاستمرار والتطور، أما إن بدأت في فقدان جمهورها فيمكن القول بأنها قد بدأت في دق أول مسمار في نعشها.
المشهد الإعلامي الحاضر ضبابي ولا يمكن التنبؤ بنهاياته ولا إلى ما قد يفضي إليه فالحكم على استمرارية وسائل الإعلام بصورتها الحالية قد يعد أمرًا صعبًا مع وجود بعض البراهين التي تشير إلى تراجع أداء بعض الوسائل كما يحصل مع الصحافة الورقية لو أردنا التخصيص، فانحسار موجة الورق قد بدأت منذ فترة مبكرة لكنها بين مد وجزر بين مطرقة القارئ وسندان الربحية وإن كانت كفة الأخيرة تميل إلى الرجحان، غير أنه على الطرف الآخر لا يمكن إغفال بعض التجارب الناجحة التي حاولت المواءمة والمزاوجة والتعايش مع الوضع الجديد فعدلت من سياساتها الرامية إلى الإبقاء على بعض الولاءات السابقة من قرائها المخلصين بابتكار منصات وكيانات إعلامية جديدة استطاعت بعض الشيء تغيير مفهوم الرسالة الإعلامية المقدمة إلى مختلف شرائح الجمهور.
وللعودة إلى النقطة الأولى من هذا النقاش يبقى الرهان قائما على الجمهور في مسألة البقاء والتطور وهو من يستطيع أن يحسم ويقرر مصير بقاء أو زوال وسائل الإعلام.