في منتصف أربعينيات القرن الماضي أصدر الروائي المصري يحيى حقي روايته «قنديل أم هاشم» التي قسم فيها المجتمع في ذلك الوقت بين التقليديين المتمسكين ببعض العادات القديمة التي ورثوها عن آبائهم وأجدادهم وبين الحداثيين المتأثرين بالأفكار الجديدة الوافدة من الغرب الأوروبي المنفتح على العالم، الرواية تسلط الضوء على طبيب عيون درس في أوروبا وعند عودته إلى بلاده يحاول محاربة بعض الخرافات والعادات التي كانت سائدة في ذلك الزمان حين شاهد أمه تقطر عين ابنة عمه الرمداء بزيت أخذ من قنديل مقام السيدة زينب باعتباره زيتًا مباركًا مما تسبب في إصابتها بالعمى، مبدئيًا اعتراضه على تلك الخرافات التي تنسب إلى الدين وتتجاهل العلم الحديث.
لا يزال قنديل أم هاشم مشتعلًا بالكثير من الجهل والخرافة حتى في زماننا هذا، وبرغم العلوم الحديثة التي وصلت إليها البشرية جميعا، وانحسار وانزياح الجهل إلا أن الكثير من الناس لا يزالون يعتقدون بكثير من البدع والخرافات والدجل التي تعود إلى عصور مظلمة ولا تمت إلى العلم والدين بأي صلة.
جمعني مجلس ببعض الأشخاص ممن لا يزال يعتقد بتأثير العين والسحر والشعوذة على الآخرين، وأن ما يحصل للإنسان من أحداث في كثير من الأحيان مرده إلى السحر والحسد والعين، وإن إنسانًا يمكنه أن يضر إنسانا آخر غيره – إن أراد – مستبعدين القدرة الإلهية في ذلك اعتقادًا منهم أن الخالق أعطى بعض مخلوقاته ميزة النفع والضر والثواب والعقاب وغير ذلك من الأقوال التي يفترض بها أن تكون بالية قديمة كان الزمن كفيلًا بغسلها وتكفينها ودفنها في التراب منذ أزمان الجاهلية القديمة.
ما أدهشني هو عودة بعض هذه الأفكار الرجعية الظلامية التي تنادي في عصرنا هذا إلى تبني الخرافة والجهل ديدنا لها لتحاكي بذلك الجهل المقدس كما أسماه الفرنسي أوليفيه روا، والأدهى أن يتبنى مثل هذه الأفكار ممن يمكن أن يقال عنهم التنوريين في العلم والدين، ويستدلون بأدلة لا تخاطب العقل أو الفكر أو المنطق أو الحجة، وإنما حجتهم في ذلك بعض قصص من خرافات ورثوها عن أجدادهم يحاولون بها إيهام الآخرين بقوة معتقداتهم وصدق أقولهم.
أحاول صادقًا هنا الإجابة على بعض التساؤلات الحيرة التي تدور في رأسي مذ جلست ذلك المجلس لماذا عدنا إلى نقطة الصفر في تبني بعضًا من هذه الأفكار الغابرة التي اعتقدنا أن الدين والعلم كانا كفيلين بوأدهما ولماذا لا يزال البعض يتبنون هذه الأفكار وينافحون بشدة من أجل إثباتها وعودتها إلى الواجهة من جديد، وهل فعلًا أن مثل هذا النوع من الأفكار والقصص والخيالات لا تزال تؤثر على عقول وأفئدة الكثير من الناس من دون مراعاة لمستويات العلم والمعرفة والتدين فهي تدخل من أبواب قد لا تكون موصدة بأحكام.
يناقش الدكتور سليمان الحسيني في كتابه «وما كفر سليمان ولكن الشياطين كفروا: تجليات المعنى ودلالات الخطاب» موضوع السحر والحسد والعين والجن حيث يقول:«الحسـد مـشـاعر وأحاسيس تختلج في نفس الحاسـد، لا تضـر المحسـود مـا لم يحولها الحاسد إلى سلوك من قول وفعل»، فالعين كما يقول المؤلف لم يرد من الأدلة سواء في القرآن أو السنة ما يمكن أن يعول عليه في إثباتها يقينا كذلك أيضا في موضوع السحر الذي شابهت شبهات باطلة بدأت باتهامات لأنبياء الله بالسحر، ولا يوجـد ما يدل على أن السحر طاقة خارقة يمتلكها الساحر يؤثر بها على المسحور وإنما هو وهم وتخيلات.
لن يقال أكثر مما قيل في موضوع الحسد والعين والسحر، ولن يقتنع الناس بكثير من الأدلة العلمية والعملية والدينية طالما كان لديهم الاستعداد الفطري لتصديق مثل تلك الأفكار والمعتقدات حتى في أزهى عصور العلوم، وإنارته للعقول فموازاة النور الساطع القادم من المعرفة هنالك ظلام دامس يقبع فيه الجهل والخرافة، ولن تتخلص البشرية من هذه الخرافات طالما امتلكت القابلية لتصديق ما يقال حتى وأن كان بنسبة ضئيلة من الاعتقاد، ولن تبقَ كثير من القناديل مشتعلة طالما كان هنالك من يحاول إطفاءه بنفخة من فمه.
https://www.omandaily.om/أعمدة/na/نوافذ-قناديل-الجهل