الكثير من الحبر سكب في قضية العقل الجمعي والعقل الفردي والاختلافات فيما بينهما وحاجة الإنسان إلى تكوين آرائه واتجاهاته وكياناته الشخصية الخاصة به من دون أن يقع في خانة العقل الجمعي المنساق وراء آراء الجماعة الكبرى أو كما يسميه بعض الكتاب والمفكرين بـ «عقل القطيع» أو سياسة القطيع التي تسوق وراءها آراء الجزء في الكل وكأن الجميع مساق خلف رأي، أساسه فرد كبر حتى صار مثل كرة الثلج تسحق ما يعترضها من آراء.
كما قلت سلفا إن الكثير من الحبر قد سال في نقد وتفنيد هذه المسألة والعديد من الآراء والأقوال والخطب والنظريات والكتب قد كتبت لتوضيح الفرق بين العقلين والكثير من التجارب العملية والعلمية قد أجريت على الأشخاص من البشر وغير البشر لتوضيح ما التبس على العامة والخاصة في هذه المسألة. إلا أن هذا الموضوع لا يفتأ أن يطل برأسه عقب كل نقاش أو تجمهر أو فعل ورد فعل يخلف وراءه اختلافا في الآراء والأهواء والأمزجة حين تحاول بعض الأصوات حشد مناصرين لها فيما تدعو إليه واستمالة عقول وقلوب أكبر قدر ممكن من الأتباع يقفون في صف الدفاع عن قضيتهم التي ينافحون من أجلها.
في مقابل ذلك يبرز هنا العقل الفردي الواقف بمفرده بمعزل عن رأي الجماعة وهذا العقل إما أن يبقى صامتا حياديا مخافة ما قد يلحقه من تبعات غير محمودة تطاله شخصيا من قبل الجماعة الكبرى وإما أن يغامر بإبداء رأيه والمنافحة عما يعتقده من أفكار وقيم ويتحمل في سبيل ذلك الهجوم الكاسح من قبل رأي الجماعة الكبرى.
مغذيات العقل الجمعي كثيرة ومتعددة ولعل الأب الروحي والمنظر له عالم الاجتماع الفرنسي «إميل دوركايم» أَوْرَدَها في كتابه «قواعد المنهج في علم الاجتماع» التي ذكر منها أن يمس موضوع النقاش الجانب الفطري والعفوي والغريزي لدى الإنسان، أو أن يلامس الهوية الذاتية أو المجتمعية للفرد أو الأمة أو أن يتطرق إلى بعض من الجوانب التي تخص الدين أو القيم أو العادات والهويات المختلفة للفرد والمجتمع، وهنا تصبح هذه المغذيات هي المنطلق الذي تتشكل منه قوة العقل الجمعي من الفرد والمجتمع.
العقل الجمعي تشكل جله وأكثره في موضوع الإعلام وربما لعبت وسائل الإعلام المختلفة دور المغذي الأول في تشكل هذا الموضوع وإن كانت هذه الوسائل بريئة في بعض الأحيان من ذلك إلا أنها كما يقول المدونون لهذا العلم إن وسائل الإعلام الحديثة بالأخص هي من أذكى وأوقد هذه الجذوة وأعاد إليها بريقها الساطع، بل وجعلها تتشكل كل يوم بعد أن كانت لا ترى إلا في أندر الحالات.
ما يسمى بظاهرة الهاشتاغ أو الترند في وسائل التواصل الاجتماعي ما هي إلا تشكيل للعقل الجمعي بصورة أو بأخرى تستطيع من خلالها فئة صغيرة كانت أو كبيرة تسليط الضوء وجلب الاهتمام على موضوع أو قضية أو أجندة تسعى تلك الجماعة إلى إقناع أكبر قدر من عقول العامة والخاصة لتبني قضيتها المناضلة من أجلها؛ لتحقيق بعض المآرب في كثير من الأحيان ولبسط رأيها ونفوذها وطغيان صوتها على باقي الأصوات المنفردة التي تغرد كما يقال بعيدا عن السرب ومنعزلة عنه.
لا أودُّ هنا تبني أو فرض رأي على آخر فكما للعقل الجمعي من خصال استبداد وتحكم وسلب لآراء الآخرين؛ فبالمثل لديه بعض حميد الخصال كون معتنقه يشعر بالأمان والاطمئنان لبقائه مع الجماعة وعدم انفصاله عنها فضلا عن اتحاد الجماعة كاملة في الأفكار والمعتقدات والعواطف وغيرها من الأفكار التي تتطلب اتحادا لا انفصالا. وكما أن العقل الجمعي يبرز في المجتمعات غير المتعلمة والفقيرة في كثير من الأحيان إلا أنه يمكن أن يبرز حتى في المجتمعات التي تتمتع بقدر كاف من التعليم والمعرفة من حيث استخدام أساليب وتكتيكات وحيل تناسب وتقنع كل فئات المجتمع.
يبرز في مسألة العقل الجمعي دور النخب المفكرة في إبداء رأيها مقابل آراء الجماعة الكاسحة وعدم استحباب الركون إلى الصمت مخافة الاتهام بالمخالفة أو إلحاق بعض الأذى اللفظي أو الفكري لتلك النخب، كما يبرز هنا أيضا دور المجتمع في الانفتاح على الآراء الأخرى وتقبلها وعدم مصادرتها إيمانا بمبدأ أن الجميع سواسية في إبداء آرائهم وأن حرية الفكر والتعبير عن الرأي مكفولة للجميع بكفالة الدستور والقانون.
منشور في :
https://www.omandaily.om/أعمدة/na/نوافذ-في-مسألة-العقل-الجمعي