إحدى الامنيات الكبار التي كان جيلنا (جيل السبعين والثمانين) يحلم بها عندما يكبر هو أن يكون لديه مكتبة في بيته حتى وان كانت مكتبة صغيرة عبارة عن رف او رفين من الكتب في زاوية من زوايا الغرفة أو المنزل يحتفظ فيها بالكتب التي يجمعها من هنا وهناك. كبر الحلم كثيرا وأصبحت المكتبة تحتل جزءا من البيت تصل أرففها الى عنان السماء لتلامس السقف حيث تتراص الكتب الكثيرة لتكون مثل الشجرة المثمرة التي تنمو كل يوم ورقة جديدة.
الفرق بين الحلم الصغير والواقع الكبير أن الاحلام عندما تتحقق تقتل فيها الدهشة وتموت منها الرغبة وتصادر منها اللذة، وهذا ما كان من واقع مكتبة في بيتي التي علاها الغبار ونسج العنكبوت فيها خيوطه وماتت روح الكلمة التي سهر الكتاب والمؤلفون على تسطيرها لسنوات طوال.
لم تعد المكتبة أساسا من أسس البيت ولا ديكورا من ديكوراته كما كان السابقون يتفاخرون بمكتباتهم المنزلية التي تختزن مئات الكتب والمجلدات، وبات الامر على النقيض من ذلك فالمكان الذي كان يخصص كركن للمكتبة في البيت أصبح في بيوت اليوم مكانا للملابس الكثيرة او ركنا لقهوة او مستودعا لأجهزة كهربائية كثيرة او غرفة لألعاب التسلية او مكانا لتجمع الأصدقاء وتسامرهم ولم يعد هنالك متسع ولو بسيط لركن مناسب يحتضن دفوف الكتب.
سمعت مقولة من أحدهم ينسبها لأحد المعروفين يقول فيها ” لا تخف على طفل نشأ في بيت فيه مكتبة” فهي التي ستربيه وتثقفه وتعلمه الحياة واساليبها فحياة الطفل بين الكتب هي حياة حقيقية لا تشوبها ولا تشوهها اية مشوهات غير حقيقية، وهذا ما كان من الأجيال السابقة التي نشأت على أحضان الكتب في بيوتها ففطمت على تقليب الصفحات وتربت على رائحة الورق وتلقت بعض صفعات الادب بأغلفة الكتب فنشأ من ذلك جيل يعرف قيمة ما يقرأه ويتعلم من كتبه معنى الحياة، وقيمتها، وهدفها، وغايتها.
لا أقول بأن هذا العصر هو عصر الجهل او عصر انقراض الكتب بل على العكس من ذلك فما تنتجه المطابع الحديثة يوميا من الكتب يعد الأكبر في تاريخ البشرية وما يدونه البشر من تدوينات خطية او الكترونية لم يتم تدوينه مطلقا في تاريخ البشرية مجتمعة وما يتداوله البشر من نصوص مقروءة حول العالم يفوق كل الخيال وما يكتبه الكتاب والادباء والمثقفون والصحفيون والعلماء والطلاب والأساتذة وغيرهم يفوق أيضا اضعاف ذلك بكثير، فالعصر الذي نحياه اليوم اسمي بعصر انفجار المعرفة وعصر ثورة المعرفة الذي تدفقت فيه كل المعارف من كل صوب وجرت عيون العلم والتعلم من كل مكان وبات الحصول على المعلومة والعلم والتعليم أسهل مما كان في أي وقت مضى.
قد تكون المفارقة هنا شديدة بين سهولة الحصول على المعرفة وتدفق العلوم وسهولة الحصول على المعلومة وبين الوعي الإنساني والاختلاف البشري الحاصل في هذا الزمان وضحالة المعرفة العامة بين الأجيال الناشئة وربما قد يكون مرد ذلك الى الانفجار المعرفي ذاته فالاختلاف يكون في بعض الأحيان مرده الى العلم نفسه وهنا يقصد بالعلم غير السوي الذي ينبش في السوء ويترك الخير.
في بيتنا مكتبة لكنها مبعثرة ولم تعد كما كانت في السابق منارة ومرجعا وجمالا يضفي على البيت رونقا ونورا. لم تعد مكتبتي الصغيرة كما كانت من قبل فأرففها مكسرة وكتبها متناثرة ومكانها مهجور ولم تعد الكتب خير صديق لي فالأصدقاء الجدد باتوا سريعين في إيقاع حياتهم لا ينتظرون ولا يتوقفون ولا يفتقدون وربما من الخير لي أن أترك من اليوم رفقة أولئك الأصدقاء لأعود الى مكتبتي الصغيرة وانفض عنها غبار السنين وارجع الى كتبي لأحنو عليها وارتبها واحادثها وتحادثني في صمت طويل لا يقطعه صوت زاعق او ناهم يدعوك الى وجبة معرفة سريعة فاسدة. ادعوا الله لي أن يوفقني في مسعاي.