ينسب المثل ” لا تعطني سمكة بل علمني كيف اصطاد” الى الثقافة الصينية التي خرج منها ثقافة الاعتماد على الذات والعمل وعدم انتظار الفرص كي تأتي بل ان السعي وراء الفرص وتعلم المهارات اللازمة هي السبيل الى الوصول الى قيم الاعتماد على الذات. وفي هذا السياق فإنني استشهد بهذا المثل في القول ” لا تعطني وظيفة بل علمني مهارة” فالمهارة اليوم هي جواز السفر في الاعتماد على الذات اولا وفي الحصول على التوظيف والتشغيل الذاتي بدلا من انتظار الوظائف الجاهزة.
قد يكون كلامي هذا بعيدا عن الواقع كما يفسره البعض فالكل ينشد الحصول على وظيفة جاهزة سواء من الحكومة او القطاع الخاص وأعداد الباحثين عن وظائف مناسبة في ارتفاع مضطرد على مستوى العالم وليس فقط على مستوى دولة بعينها خصوصا خلال العامين الماضيين حيث تقدر منظمة العمل الدولية أن يرتفع اعداد الباحثين عن عمل في العالم بنحو 25 مليون شخص بسبب تداعيات وباء كورونا وبعض العوامل الاخرى كالحروب والركود الاقتصادي وغيرها من العوامل التي تسببت في فقدان الكثيرين لوظائفهم، وتتوقع المنظمة أن يتحسن هذا الرقم تدريجيا بعودة الاوضاع الاقتصادية الى مسارها الصحيح تدريجيا.
غير أن حكاية المثل الصيني القديم المتمثلة في ” علمني كيف اصطاد” والتي اصبحت مثلا عالميا يضرب للتعبير عن تعلم المهارات المختلفة في الحياة وخصوصا تعلم مهارات البحث عن الوظائف عادت من جديد لتظهر على السطح بعد الثورة التقنية والولوج الى عالم الاتصالات وشبكة المعلومات ومواقعها المختلفة التي ساهمت وبشكل مضطرد في توفير فرص عمل للكثير من الناس من خلال التشغيل الذاتي والعمل عن بعد والاعتماد على أنفسهم في التشغيل والتوظيف وباتت الكثير من الوظائف في العالم الرقمي معتمدة على الجهد الذاتي للشخص نفسه بعيدا عن العمل المؤسسي الذي تديره المؤسسات ذات الهيكيلية الوظيفية.
في هذا العالم الرقمي باتت المهارة والموهبة هي الفيصل الوحيد في الحصول على دخل ثابت من عمل ليس ثابتا بل عمل مرن يتيح للفرد ادارة نفسه بنفسه ومن أي مكان كان من دون أن يكون لديه رب عمل او مشرف عليه، وكما تشير بعض الاحصاءات فان الطلب على الموهبة والمهارة بات أعلى من أي وقت مضى وانه بحلول العام 2030 فان أكثر من 85 مليون وظيفة في العالم هي بحاجة الى مهارة وموهبة أكثر منها الى اي شىء آخر كالشهادات العلمية او الدورات التدريبية او غيرها من الخبرات الادارية المختلفة.
وكما يشير احد الكتاب في مقال صحفي منشور فان العالم يشهد استقالات كبيرة من الموهوبين والمبدعين من اعمالهم بنسبة تصل الى 38 في المئة كي يتفرغون للبحث عن أماكن اخرى للعمل تقدر مواهبهم وامكاناتهم، وربما يجدون ذلك في العالم الرقمي الذي لا يتطلب وجود مؤسسة ذات تنظيم عال للعمل فيها ويتوافر بها العمل المرن والاستقلالية والحرية في العمل.
الحديث عن امتلاك المهارات اللازمة لسوق العمل لا يعني اقتصاره فقط على العمل من خلال العوالم الرقمية والتي سهلت كثيرا من فرص الحصول على وظائف مستقلة، بل ان الكثير من الاعمال والتي تتطلب مهارات للنجاح فيها يمكن ان تكون من الوظائف او الحرف التقليدية البحتة والتي اذا ما صقلها الانسان واهتم بتنمية مهاراته فيها فانه يمكنه ان يخلق لنفسه بيئة عمل مناسبة تغنيه عن العمل المؤسسي وعن عناء البحث عن وظيفة بدوام كامل.
ربما يكون من مهام الدول والمؤسسات توفير فرص عمل لمواطنيها، ولكن الاهم من ذلك هو توفير التعليم اللازم لتنمية المهارات المختلفة لدى الباحثين عن عمل والباحثين عن فرص جديدة للاعمال وصقل هذه المهارات وتنميتها والمساعدة في تأسيس المشروعات الخاصة لهؤلا الافراد والاخذ بيدهم وتمويلهم ومساعدتهم على ادارة شؤون اعمالهم، لان هذه الدول مهما كان حجمها الاقتصادي والسياسي لن تستطيع استيعاب وخلق فرص عمل لكافة فئات المجتمع.