فكرة أن العالم مستقبلا سيصبح متعدد الاقطاب هي فكرة غير قابلة للحدوث او كما وصفها مرة أحد السياسيين بأنها فكرة خرافية غير قابلة للتطبيق ولا يمكن تصورها الا في عقل من لا يعي حركة التاريخ الذي طالما كان دوما يرزح تحت وطأة القطب الواحد او في بعض الاستثناءات التاريخية تحت سيادة الثنائية القطبية.
القطبية والتي اعني بها هنا هيمنة قطب واحد ودولة واحدة على المشهد الدولي فتكون هي المسيطرة اقتصاديا وسياسيا وعسكريا وتقنيا على مقدرات العالم بأكمله ويكون التحكم بكثير من الامور تحت سيطرة تلك الدولة وذلك القطب وما عدا ذلك القطب يبقى الهامش البسيط المتاح لباقي الدول أن تلعب فيه شريطة ان لا يتعارض مع مصالح القطب الاوحد. في كثير من الاحيان قد يدخل على خط القطبية هذا قطب آخر او بعض الاقطاب فتنازع القطب الاوحد الصدارة والسيادة لكن في نهاية المطاف يحسم أمر القطبية لصالح أحدهما ليعود العالم الى سياسة القطب الواحد كما هي سنة من سنن الكون.
من سجلات التاريخ واضابيره تبرز امبراطوريات قديمة بائدة كاليونانية والرومانية والصينية والاسلامية والعثمانية ولاحقا الامبراطوريات الاوربية في بريطانيا واسبانيا وروسيا كانت بمثابة القطب الواحد المهيمن على العالم ومقدراته فكانت تمتلك القوة العسكرية والاقتصادية والسياسية التي ساعدتها على بسط هيمنتها على كثير من دول العالم القديم، وحديثا برزت الامبراطورية الامريكية بعد ان قامت بالتعريف عن نفسها بأنها شرطي العالم وانها القوة الاعظم في تاريخ الامبراطوريات خصوصا بعد أن استفردت بزعامة العالم عقب هزيمتها للقطب الروسي الذي كان في فترة من التاريخ يتعبر ندا للسطوة الامريكية.
الشمال والجنوب الشرق والغرب فلسفة تقوم عليها القطبية المتعددة التي يفترض بها أن تسود العالم برمته وكثيرا ما تبرز هذه النداءت في المحافل الدولية التي تجمع العالم تحت قبتها كالامم المتحدة مثلا التي نادى أمينها العام انطونيو غوتيرش مرة بأن ” تعدد الاقطاب يعد الطريقة المثلى لاصلاح مبدأ التعددية وتجديد توازن العالم”، غير أن مثل هذه النداءات الاممية وغيرها لا تلقى الا أذنا صماء عند صانعي السياسة القطبية ممن لا يحلو لمسامعهم هذا الكلام خصوصا عندما يصدر من منظمة أممية. وحتى وان صدرت نداءت مماثلة من دول وحكومات ومنظمات تحاول مناطحة العملاق القطبي فانها سرعان ما يتم وأدها وكبح جماحها.
في عصرنا الحديث وقبل ما يزيد عن الثلاثة عقود حاولت بعض الاقطاب منافسة القطب الواحد لكنها فشلت في مسعاها وحتى اليوم تحاول بعض الدول مثل روسيا والصين والهند منازعة القطب الواحد على السيادة بانشاء بعض التجمعات الاقليمية والدولية مثل منتدى ” بريكس” الذي يضم في عضويته البرازيل ورسيا والهند والصين وجنوب افريقيا، حتى ” الاعلان المشترك بشأن عالم متعدد الاقطاب واقامة نظام دولي جديد” والموقع بين روسيا والصين لم يفلح كثيرا في وضع الصين او روسيا او البرازيل او الهند كند بارز مقارع للقطب الامريكي المهيمن على الساحة الحديثة، ربما بسبب ما يمتاز به القطب الامريكي من سطوة وهيمنة على المقدرات العسكرية والتقنية والاعلامية لم تستطع اي دولة منفردة او مجتمعة من تحقيق اختراق له حتى اللحظة.
أعود الى فكرة ان القطبية لا تزال هي السائدة في عالم اليوم ويمكنني هنا اسقاط الاعلام ووسائله الحديثة كمثال على الهيمنة الغربية على هذا القطاع فكما انني لا أزال اتذكر بعض المقررات الدراسية منذ ما يربو على العقدين من الزمان تحذر من هيمنة القطب الواحد اعلاميا وتبحث في ايجاد بعض السبل والمخارج لتضييق الفجوة المعلوماتية بين الشرق والغرب وتقليل تدفق الاخبار والمعلومات من الغرب الى الشرق، الا أن هذه الفجوة يبدو أنها تزداد اتساعا يوما بعد يوم خصوصا مع هيمنة الغرب وتحديدا الامريكي على وسائل الاعلام والاتصال الحديثة.
لا بد من نهاية للقطبية الواحدة ولكنها ستكون نهاية لقطب بحلول قطب آخر مكانه، لذا فانه من الصعوبة بمكان أن يحكم العالم ربانان لان السفينة كما يقول المثل لا يقودها ربانان كذلك هو العالم سيغرق ان تحكم به قطبان.