الذاكرة لا تسعفني لتذكر أول مرة رأيت فيها نزوى؛ لكنها حتما وأنا صغير ممسكا خنصر أبي يقودني خلفه؛ مشدوها بمنظر غافة عظيمة تحلق حولها أناس بثياب زاهية ولحى منسدلة وخناجر غافية على جنبات رجال عركتهم الحرب وأضناهم المسير. أتخلف عن خنصر أبي وأقف رافعا رأسي للسماء حيث منارة الجامع تطاول الشمس علوا فلأول مرة أرى ارتفاعا شاهقا بهذا الحجم، ألج حيث ولج أبي الى السوق المظلم أو كما كان يسميه أهل ذلك الزمان ” سوق الصنصرة” أو سوق الظلام حيث خيوط الضوء المتقاطعة بالكاد تكفي لإنارة السوق من الداخل.
الشهباء والجامع والسوق ثلاثية نزوى الشهيرة وان اجتهدنا في تسميتها طبقا لرواية المعماريين فهي “مركز مدينة نزوى” وقلبها النابض بالحياة؛ فمثلثها يرتكز على الدين والتراث والاقتصاد وهو ما يمثل عماد كل المدن العمانية والعالمية القائمة على هذه الفلسفة.
فلسفة العمارة الحضرية القديمة في القرى العمانية ترتكز على توافر كل متطلبات الحياة اليومية الضرورية في مربع واحد صغير تبدأ من الفلج والجامع والسوق والحارة والحصن أو القلعة كلها مترابطة مع بعضها البعض في عمران بديع متجانس بتنا نقتده في هذه الايام الحديثة.
الثلاثية هي الوجه الظاهر لنزوى وهو ما يعرفه كل من زارها وجال بين جنباتها؛ لكن ما تخفيه هذه المضلعات الثلاث هو بيت القصيد في حديثنا هذا، فهنالك وجه آخر أجمل وارق والطف وينساب عذوبة وألقا؛ هو وجه حارات نزوى المتراصة بيوتها؛ المتقاربة سكيكها؛ العالية ابراجها؛ الشاهقة اسوارها؛ المنسابة افلاجها؛ الباسقة نخيلها؛ الشاهدة آثارها؛ المترابطة دروبها؛ المتآلف انسانها والمترابط تقاليدها وعاداتها.
لاكتشاف هذا الكنز المدفون كان لا بد لنا من السفر عبر الزمن والتجول في تلك الازمنة والحقب عبر تاريخ عمان وتاريخ نزوى على وجه الخصوص حين مر التاريخ على هذه الحارات منذ القرن الاول الميلادي وحتى قرننا الحالي حيث لا يزال انسان نزوى يقطن في ناحية من نواحي بيوت الطين تلك.
جولة بسيارة كهربائية كلاسيكية أشبه بسيارات الزمن الماضي وبصحبة مرشد نرددت صرخات ميلاده بين جدران حارات نزوى القديمة فحفظ كل ما فيها عن ظهر قلب وتقصى من آبائه واجداده عما لا يعرفه من تاريخ حارات العقر وسعال والمدبغة، ارتقى الاسوار العالية ومشىى سكك ودروب الحارة الضيقة وتسبح في أفلاج دارس و ابو ذؤابه وصلى في كل مساجدها ابتداء من أحدث مساجدها المسجد الجامع مرورا بمسجد الفرض وانتهاء بأقدم مساجد مسجد نزوى مسجد الشواذنة ثاني اقدم مسجد في السلطنة بني في العام السابع الهجري ويمتاز بمحرابه ذو النقوش الهندسية البديعة ومسجد المزارعة الذي يعود الى القرن الثالث الهجري.
أحمد الصباحي أمضى زهرة شبابه متجولا بين حارات نزوى وبيوتاتها القديمة راجلا كان أو ممتطيا دراجته الهوائية صغيرا ولاحقا دراجته النارية الصغيرة “الهوندا” وسيلة النقل الشعبية في نزوى والتي لا يخلو بيت من بيوتات نزوى من واحدة منها سواء للصغار أو كبار السن لينقلك هذا المشهد الى عواصم عالمية كما في بانكوك وجاكرتا أو مانيلا حيث الدراجة النارية هي وسيلة النقل الشعبية، وهو الى اليوم -أي أحمد- لا يزال مواظبا على عادته تلك ولكن بطريقة اخرى فهو يعمل مرشدا سياحيا مرخصا من وزارة التراث والسياحة عبر سيارته الكهربائية الحديثة التي قام بالاشتغال عليها لتناسب حارات نزوى القديمة الضيقة.
تبدأ الرحلة من قبالة سوق نزوى التقليدي الفائز بجائزة العمارة العربية في العام 1992 حينها كان هذا السوق أيقونة في العمارة الحديثة الممتزجة بالتراث العماني خصص كل ركن من اركانه الأربعة للأسواق المتخصصة فبدءا من سوق الحرفيين على يمين القادم للسوق تتوزع محلات الفخار وصياغة الخناجر والسيوف وسباكة الفضة للحلي النسائية يليها سوق مختص للخضروات والفواكه القادمة من مزارع نزوى وسفوح جبالها وجبال القرى المجاورة لها حيث يزدهر هذا السوق أوقات جني مواسم الفواكه الجبلية التي تأتي من قمم وسفوح الجبل الأخضر كالرمان والمشمش والبوت وغيرها من الفواكه الموسمية، كما خصص ركن في هذا السوق لبيع الأسماك الطازجة المحملة من بحار عمان المختلفة وبه أيضا ركن للعرصة تباع فيه الأغنام والابقار بطريقة المناداة التقليدية وهو مكان مفضل للسائح الأجنبي يستطيع فيه الوقوف عن قرب على بساطة حياة العماني في تعاملاته اليومية وفي بيعه وشراءه.
الطواف على نزوى يبدأ من المرور على نصب الثقافة العربية حينما اختارت المنظمة الإسلامية للتربية والثقافة والعلوم ( الايسسكو) نزوى لتكون عاصمة للثقافة العربية في العام 2015، تطوف على النصب فتتوالى عليك صور العلماء والمؤرخين والادباء والكتاب ممن خلدوا تاريخ هذه المدينة منذ كانت عاصمة إدارية سياسية لعمان في العام 794 ميلادية. تطوف عليك صور أئمة عمان وعلمائها كالعلامة نور الدين السالمي والامام سالم بن راشد الخروصي والصلت بن مالك الخروصي وعامر بن خميس المالكي وأبو المؤثر الصلت بن خميس الخروصي الشيخ ناصر بن خميس الحمراشدي غيرهم الكثير، ممن حفرت أسمائهم في سجل نزوى التاريخي مثلما حفرت جدران حارة العقر تاريخ نزوى كلها.
السيارة تخترق صباحات العقر الأربعة (الشجبي والصبخة والسوق وأبو المؤثر) المنبثقة من سورها المنيع الذي يصل طوله الى اكثر من مائتي متر يطوق الحارة بأكملها كما تطوق اليد المعصم ليحميها من غارات الأعداء وينشر الامن والطمأنينة داخل بيوتات الحارة التي يزيد عددها على الالف بيت عصفت بمعظمها رياح الزمان فأفقدتها عنفوانها الذي كانته من قبل.
وكأنني اتمشى بين حارات دمشق القديمة أو سككك فاس ومراكش المغربيتين أو بيوتات تونس العتيقة أو أتحسس أسوار القلعة وخان الخليلي في مصر وأسافر الى الاندلس مجد العرب البائد لاقف على تاريخ عمارتهم الإسلامية القديمة في المباني والبيوت الاثرية في قرطبة وطليطلة واشبيلية أو أناظر امتداد الأثر الإنساني في حارات وارسو وبراغ ، لانتبه الى أنني لا زلت في عقر نزوى التي أبى بعضا من شبابها إلا أن يعيد لهذه البيوت ألقها ورونقها وصفائها وتعود آلة الزمن للوراء حين كانت تلك الحارة مزدحمة بالانفس اللاهثة وراء الحياة ولتعيد معها بعضا من نظارة تلك البيوت والاسوار والصباحات الجميلة ولتدب الحياة من جديد ويسري الدم في أزقة وسكك الحارة القديمة بين كهل عماني يتذكر صباه بين جدران الطين وشاب يتلمس خطى تاريخ آبائه واجداده وسائح اجنبي منبهر بروعة البناء وفن العمارة وباحث وجد ضالته ليخط في دفتره حكايات أثر قديم من آثار الاولين.
وقفنا على مشاريع لنزل وبيوت تراثية تم إعادة تأهيلها وفق قواعد الترميم الاثري الصحيح، مشاريع أهلية أعادت ترميم بيوت تحولت الى مقاه ومطاعم عصرية حديثة ومحلات لبيع الكثير من المنتجات العمانية التراثية وغيرها، ومشاريع قادمة تتنظر النور كي تخرج للعلن كما أخبرنا مرشدنا أحمد الصباحي من أن الطواف حول نزوى بسيارته الكلاسيكية أوشك على الانتهاء وأن الرحلة لا بد لها من الانتهاء كي تبقى ذكراها قابعة في عمق الذاكرة.