” رب صدفة خير من ألف ميعاد”
هكذا كان لقائي بصلمى من غير ميعاد ضرب بيننا، وحده القدر ساقني اليها. رأيتها فاتنة، وادعة، حنونة، بارعة في الجمال والرقة، ممتنعة عن كل رائي، تبهر كل من رآها. اسمها يحمل معنى التدفق والانسياب فهي المتدفقة بالماء والحياة. وصلتها في ظهيرة قائلة فكانت دافئة في ترحابها، توارت عنها شمس النهار قليلا كي لا تخدش حيائها.
الرحلة الى صلمى شاقة متعبة لا يقدر عليها الا من أوتي قوة بأس وشجاعة في النفس، قهرت أعدائها بسبب وعورتها وخشونتها وارتفاعها الملامس للسماء، قست على أهلها حتى هجروها لكنها قسوة محب لمن أحب، منحتهم كل ما طلبوه من متاع وجاه لكنها الحياة هكذا لا تصفو في بعض الاحيان الا بهجر وفراق.
صلمى أو الصلماء قرية تنام في حضن الجبل، تطوقها وتحيط بها جبال الحجر الغربي من كل جهاتها الاربع، الوصول اليها ليس باليسير فهي تتربع في أعالي قمم الجبال، شتائها قارس وصيفها دافىء، يقول أهلها أن ” شمس الشتاء تزاور عنهم أربعين يوما ” فبحكم تقوس جبالها التي تعلوها فإن شمس الشتاء الباردة المنخفضة تحتجب عنهم ولا تزورهم حتى ينقضي فصل البراد ويحل فصل الصيف الدافىء حيث تنشر الشمس أشعتها الدافئة على القرية وأهلها فتزهر أشجارها المزروعة والنابتة من الطبيعة كالبوت والعلعلان والعتم والسعتر الجبلي والسيداف والليمون والخوخ والرمان وكثير من نباتات جادت بها الطبيعة على صلمى وأهلها.
رحلتنا بدأت من حي السرح مركز ولاية الرستاق حيث البيوت مصممة على طرز معمارية حديثة تركناها خلفنا قاصدين وادي بني عوف. قلت لمرافقي بأني دخلت عقدي الرابع ولم أزر هذا الوداي بعد على الرغم من قراءاتي لبعض الكتابات عنه واغراءات كثير من الاصدقاء بزيارته لكنني كنت صادا عنه وهأنذا اليوم أكفر عن خطيئتي تلك بزيارته والصعود الى أعلى جباله حيث لا يسكن سوى وعل عربي ذي قرون قصيرة ألف الجبال الشاهقة فأبى النزول عنها.
فيديو: رحلة الى قرية صلمى بوادي بني عوف
رفيقنا صيلمي أي من سكان صلمى هو خالد المياحي شاب “دفنت سرته” كما قال في تلك القرية والتي نسيت أن أخبركم بما يعنيه اسمها فهي كما قال مكونة من كلمتين صل بمعنى سال وماء فجاءت كلمة صلمى لتعنى الماء المنساب في القرية فشريان القرية هو الماء وبدون ماء سالٍ أو جارٍ لا تكون حياة لا لصلمى ولا لغيرها من القرى المجاورة لها.
جاوزنا العمران فبدى لنا الوادي بأشجاره الخضراء الباسقة المثمرة الوارفة الظلال ومياهه الجارية المنسابة الرقراقة النابعة من عيون الارض الخضراء، حتى وصلنا الى وادي الافاعي كما أشيع أن الافاعي تتخذ من هذا الوادي ملاذا آمنا لها، وفيه تصب تسعة أودية تنحدر من قمم جبال وادي بني عوف المختلفة، تركناه خوفا من تحذير سابق من أن من لا يجيد السباحة مع الافاعي فعليه بمغادرته والابتعاد عنه.
“رحلتنا بدأت للتو” هكذا أعلنها الصيلمي وفهمت لاحقا ما عناه، بدأنا رحلة شاقة مجهدة متعبة في الصعود التدريجي نحو القمة، طريق وعر لم يسلكها في السابق الا الدواب المدربة على المشي على حواف الجبال والوديان، وها نحن اليوم بدوابنا المتطورة نسلكها، هي ذات الطريق ربما اتسعت بمقدار ذراع أو ذراعين لكنها هي ذاتها، سلكنا طريق الاجداد في سعيهم الحثيث عن الرزق، في صعودهم وهبوطهم من قمم الجبال الى قيعان الوديان، كابدنا المشقة والتعب، وعرفنا كم هي الراحة التي ننعم فيها اليوم بوجود كثير من وسائل الراحة والاسترخاء.
حاول مضيفنا تسهيل الامر علينا وتبسيطه ” هذا المكان مقصد سياحي جميل لمن يهوى المشي على رؤوس الجبال، المنطقة تعج بالهواة والمحترفين القادمين من كل مكان لممارسة هواياتهم، هذا هو مكانهم المفضل”. لم أشك في كلامه فقد رأيته بأم عيني، أفواج من المركبات الرائحة والغادية تحمل زرفات من السياح يقفون عند نقطة معينة ويبدأون في الانطلاق مشيا على الاقدام لمسافات تطول أو تقصر، رياضة تجعل الفرد يعود منشرح الصدر زائل الهم وذا همة عالية تستمد من الجبال الشامخة أنموذجا لها.
ساعة ونصف قضيناها في المشي البطىء صعودا نحو القمة حتى لاحت لنا صلمى، صامتة الا من ثغاء شياه استبشرت خيرا بقدومنا، تعقلت بنا وكأنها ترى سحن مختلفة قادمة من غير الارض التي ألفتها، شياه يتردد صداها في أنحاء المكان فلا تجد من مجيب لها سوى من مثيلاتها الرابضات على قمم وسفوح الجبال.
طفنا بالقرية فرأينا آثار من مر عليها من أهلها، فلجها الذي اسميت باسمه ينز ماءا خفيفا من تجويف جبلي حاول الاولون بما أوتوا من قوة أن يجبروه على السيلان أو الصيلان بلغتهم حتى وصولوا الى صخر قدً من جبل صلد لم يستطع الماء أن يجد من خلاله سبيلا، فلج كان يجري بين سواقي القرية يسقي مدرجاتها المزروعة ليمونا ورمانا وخوخا ونخلا وعنبا.
لا تملك الا أن تعيش الدهشة وأنت بين قمم الجبال يتردد صداك بين أروقة المكان، تشعر بأنك قريب من السماء وبعيد من الارض، لا تشعر الا بزفير أنفاسك من شدة الصمت المطبق على المكان، صمت مهيب لم تلوثه مدنية حديثة ولا مبان شاهقة ولا أزيز محركات ولا أصوات بشر، مكان لا ترغب في مفارقته أبدا لو لا أن صوتا آتيا من صديقنا حمد نبهنا بأن الساعة قد أزفت وأن علينا أن نقفل راجعين من حيث أتينا قبل أن تسدل الظلمة ستارها على الوادي. لملمنا أنفسنا وودعنا شياهنا واعتلينا دابتنا على وعد من صديقنا الصيلمي بأن نعود الى قريته التي آثر النزول منها والسكون الى الارض فهو لربما لم يسمع بقول شاعر تونس العظيم أبي القاسم الشابي ومن لا يحب صعود الجبال يعش أبد الدهر بين الحفر. ودعناه على أملٍ هذه المرة أن نعود اليه بموعد نضربه مع صلمى بعد أن كان لقائنا بها صدفة.