في قرية صغيرة قرر شاب طموح فتح مشروع صغير لبيع الخضراوات والفواكه ولكونه المحل الوحيد في القرية تهافت الجميع على الشراء منه فحقق أرباحا جيدة وبحكم أن تجربته كانت الأولى في القرية فقد ضمنت له النجاح. أغرت هذه التجربة “ناسخي قصص النجاح” بافتتاح محل ثان وثالث لبيع الفواكه في القرية ذاتها غير أن القوة الشرائية للأهالي لم تكن بتلك القوة مما ترتب إغلاق المحلات الجديدة.
هذا هو حال بيئة الأعمال هذه الأيام أفكار حديثة إبداعية تنجح في تحقيق تنافسية عالية ثم يتم استنساخها من قبل آخرين من دون النظر إلى القوة الشرائية أو الحاجة إلى هذا النوع من الأعمال أو غياب التحديث والتجديد والابتكار أو الجهل بالإدارة المالية وإدارة الموظفين وقصر الرؤى في إعداد الخطط لتحقيق العوائد المالية المرتجاة من المشروع.
بنظرة سريعة على ” البزنس” هذه الأيام تجد أن الكثير منه قائم على استنساخ أفكار ناجحة استطاعت تحقيق النجاح والانتشار فأغرت الكثيرين لاستنساخ هذه التجارب الناجحة لكن من دون التعديل أو الإضافة أو الابتكار عليها. محل “كرك” يأتي بفكرة جديدة لبيع الشاي والخبز فينجح المشروع وتستنسخ فكرته لتنتشر بعدها محلات “الكرك” في كل زاوية وحارة؛ فكرة مبتكرة لعربة متجولة تبيع “البرغر” الطازج تحقق اسما جيدا في السوق يعقبها استنساخ لعربات عشوائية لبيع “البرغر” تحتل كل ناصية وشارع وسكة؛ مكتب للسمسرة العقارية يحقق بعض الأرباح باستخدام وسائل التقنية الحديثة يتحول بعدها الجميع إلى تجار واتساب يبيعون أراضي لا يعرفون عنها شيئا.
هذه قصص “البزنس” القائم منها على الابتكار وريادة الأعمال أو على التقليد والتكرار واستنساخ التجارب الناجحة وبين هاتين التجربتين يبقى نجاح واستمرار بيئة الأعمال مرهونا بعدة عوامل وظروف تتداخل فيها عوامل قوة الإدارة والتنظيم والابتكار والتحديث وغيرها من العوامل التي تمكن رائد الأعمال أو المستنسخ من استمرار أعماله والنجاح فيه.
لست هنا بصدد تشخيص أو الدخول في نصائح لرواد الأعمال ممن ينوون البدء في تلمس خطواتهم الأولى في عالم الأعمال فالدخول إلى هذا المعترك ليس بالأمر البسيط ولا يفهم مخاطره إلا من جربه، لكنني هنا بصدد مناقشة فكرتين رئيستين في صناعة الأعمال هما الإبداع والتقليد وأيهما يحقق النجاح ويجني الأرباح؟ وهل تضمن الأفكار الإبداعية المبتكرة فرصا للنجاح وتحقيق الأرباح وزيادة الإنتاجية أم أن الأفكار التقليدية أو ما يسمى بفكرة القص واللصق كما في الأمثلة السابقة أعلاه يمكنها أيضا من تحقيق النجاح والتفوق وجني الأرباح بغض النظر عن المنافسة الشرسة في السوق وعدم الإتيان بأفكار إبداعية جديدة تنعش السوق وتجلب انتباه المستهلك؟
يقول “بيتر ثييل” رجل الأعمال والمساهم في تأسيس “باي بال” في كتابه من الصفر إلى الواحد إن “الإبداع ليس شرطا لريادة الأعمال وأن التقليد يمكن أن يكون ريادة أعمال حقيقية” وينصح “ثييل” في كتابه المبتدئين في عالم الأعمال إلى التجديد والابتكار من خلال ما أسماه التوسع الأفقي والتوسع الرأسي حيث يركز الأول على التجديد في الأعمال من خلال تطوير وتحديث الأعمال القائمة ـــــ فيما أسميناه بقائمة القص واللصق ـــــ في حين يركز التوسع الرأسي على الاتيان بالابتكار والجديد في عالم الأعمال لم يكن موجودا من قبل وأبرز مثال على ذلك استخدام الطاقة الشمسية في المصباح الكهربائي والاستغناء عن الكهرباء.
لن أخوض في سرد الكتاب والحديث عنه ويمكن للمهتمين الرجوع إليه فهو متوافر بالنسخ الإلكترونية ومفيد للمبتدئين في تأسيس ريادة الأعمال، وإنما أشرت إليه كمرجع ودليل ممارسة للأعمال التجارية وكيفية البدء في تأسيس بيئة قد تكون قائمة على تقليد أعمال قائمة شريطة أن يتم التجديد والتحديث والابتكار ليس في الأفكار فقط وإنما حتى في الإدارة والاستدامة المالية والإدارية والمراجعة المستمرة والمنتظمة للأنظمة المستخدمة في الأعمال ومتابعة كل ما هو جديد يمكن استخدامه والاستفادة منه في الأعمال وتسخير التقنية الحديثة في الانتقال من البيئة التقليدية للأعمال إلى بيئة حديثة تضمن سهولة الوصول إلى الجمهور.
الأمثلة كثيرة على أعمال بدأت كأفكار إبداعية حقيقية ولم تستطع الصمود في وجه أعمال ظهرت لاحقة عليها قامت بتقليدها، وهنالك أيضا أمثلة نجحت وحققت مكاسب اقتصادية من استنساخ أفكار قديمة لكنها قامت بتطويرها وتحسينها والاشتغال عليها، فالرهان هنا ليس على الفكرة بقدر ما هو على الاستدامة، والتطوير والتحديث والابتكار.