“لا يسكن ذاك البيت الا الشيطان وأخيه؛ إياك والتفكير أن تضع قدمك على عتبة بابه؛ أو دعني أقولها لك بكل وضوح لا تقترب حتى من تلك السكة الضيقة”.
الشيطان وأخوه يسكنان قريتنا! فغرت فمي مشدوها من كلام أمي؛ ولماذا تحذرني من الشيطان ان كنت كل يوم أذهب الى المسجد الجامع لأداء كل الصلوات في جماعة؛ وأبي قالها لي مرة ” يا بني إن الشيطان لا يقترب ممن يصلي في المسجد” جل من في قريتنا يصلون الصلوات في جماعة؛ فأين الشياطن إذا ؟.
اليوم أجدني بحاجة الى تعريف الشيطان ! هل عبود الضحاك شيطان؟ هو لا يصلي ولا يقرب المسجد وهو دائم الضحك؛ يضحك من اَي شىء ومن كل شىء؛ لكن ضحكه هذا ينقلب الى سخرية عند سماع صوت ساعد بن سالم يؤذن لصلاة المغرب ليؤذن بانتهاء لعبنا؛ يقول لنا ” روحوا صلوا أحسن لكم عن تضربكم مهاتكم؛ أنا رايح الوادي ….” هل هو الشيطان؟ ربما لكن لا اظن؛ عبود لا يؤذي احدا ولا يضرب احدا ولا يجبر احد على فعل شىء ؛ ان من تحذرني أمي منه ومن أخيه ليس عبود الضحاك هو شخص آخر وشياطن آخر؛ غدا سوف اسأل عنه المعلم سعيد بن سليم الذي نلقبه نحن الصبية في مدرسة القرآن ب “البغيض” ستيني ممتلىء البطن لحيته كثة اصطبغت بالبياض لا يبين وجهه منها نبت شعرها في كل جزء من وجهه حتى شاربه غطى على فمه ؛ ان تكلم دخل بعض الشعر في فمه؛ أعرج ينزل بكل ثقله على جانبه الأيمن لان رجله اليسرى اقصر من اليمنى وبها كثير وسم من كثرة ما حاولت أمه معالجته في صغره ولكن بدون فائدة مما روت لي أمي.
عندما حان دوري لتسميع سورة المطففين جلست أمامه فاتحا الختمة وأنا انظر بوجل الى الخضرية التي سحلها للتو من نخلة المسجد المجاور لمدرستنا وكلي خشية أن تلسعني صياتها على ظهري. حمدت الله انني لم اخطىء في المطففين وإلا كانت تلك الخضرية تطفف على ظهري الآن؛ تجرأت في المكوث قليلا بعد التسميع لاسال المعلم عن الشيطان ..
” معلمنا؛ من هو الشيطان؟”
لا أذكر بعدها ماذا حدث لكن ما قاله لي سلوم ان عددا غير معروف من السياط انهال على ظهرك ويدك؛ وان “البغيض” استشاط غضبا فقام من جلسته ليلهب ظهرك بسوطه حتى انك فررت من الكوة الصغيرة التي لا ندري الى اليوم كيف اتسعت لك.
ترى هل هو أخو الشيطان أو الشيطان نفسه الذي حذرتني منه أمي؟ أنا لم أقصد بجرأتي على سؤاله ان أشير اليه انه هو الشيطان لكن يبدو أنه فهم سؤالي خطأ.
لم أخبر أمي بقصتي لكن الخبر وصلها قبل أن أصل؛ لامتني على سؤالي وقامت بدهن ظهري بليمونة خضراء حتى تخف مواجع الالم.
لم يعلمني السؤال درسا فلا زال سيىء الذكر وأخيه يهرشان رأسي ويدقان مسامير في جدار عقلي يلحان علي أن أجدهما مختبئين في أحد أركان قريتنا المنزوية بعيدا عن البشر.
هذه المرة لمعت في ذهني فكرة لم استطع مقاومة إغرائها حتى بعد أن أسدل الليل لحافه على قريتنا الغارقة في سواد الليل وحلكته الا من فوانيس معلقة هنا وهناك تنير درب من تقطعت سبله واضطره سرمد الليل الى قضاء حاجته بعيدا عن منزله؛ قلت في نفسي ان الشيطان لا يحب النهار فهو دائم السهر ليلا ولا يحلو له الظهور إلا بعد أن يختفي قرص الشمس الأصفر خلف جبل الكور الشاهق الارتفاع ؛ وجدتها فرصة سانحة عقب صلاة المغرب أن انتظر حتى تحين العشاء وأذهب للجامع وهنالك أسأل الإمام علي بن سليمان الذي تعارف الناس على تسميته بالإمام حتى انه نفسه نسي اسمه من قلة استخدامه واعتباده على اسمه البديل الذي يضفي عليه شىء من القداسة والتبجيل؛ أقيمت الصلاة واطال الإمام في ركعتيها الاوليين وقرأ طوال سور لم احفظها بعد في المدرسة؛ انهيت صلاتي قبله مهيأ نفسي لاقتناص فرصة خروجه من الباب الكبير لأسأله ذات السؤال.
الإمام نحيل الجسم يعتمر عمامة بيضاء يلفها خمس مرات على رأسه ثم يسدلها لتلتف على رقبته؛ دشداشته بيضاء ناصعة تصل الى منتصف ساقيه اللتان تبدوان صغيرتان ضامرتان معفرتان بالتراب؛ لحيته خفيفة صغيرة بياضها أكثر من سوادها لا تزيد عن قبضة اليد في طولها؛ يتكأ على عصا غليظة جلبها له سعيد الزنجباري عندما رجع القرية آيبا من غربته قال له انها من خشب الساج الصلب القوي الذي لا ينكسر فهو يعتز بهذه العصا ويجل سعيد بسببها.
لم ألمحه وهو يخرج؛ فقد كان في حديث مع الشايب سليم الكوس الذي استوقفه لحديث طويل تغافلت عنه ولَم اتصنخ لما يقولون؛ رأيته من بعيد يشق طريقه فتبعته الى مقصده قلت علني الحق به قبل دخوله بيته وأسأله عن الرجيم عَل لديه جوابا لسؤالي.
انحرف الامام عن طريقه التي يسلكها فانحرفت ورائه؛ قلت علها طريق مختصرة الى بيته؛ لكنه واصل الطريق حتى خرج الى خارج العمران حتى رأيته يقصد بيتا يضيء قنديله اضاءة خافته؛ فرع الباب الخشبي الصغير بعصاه الغليظة فأتاه صوت أنثوي يدعوه بالدخول نكس رأسه ودلف داخلا حتى رأيت شبح جسمه الضئيل ينعكس على الجدار وبجواره ظل شبح آخر يضع يده بيد الإمام.
داخلني الفضول لمعرفة ماذا يفعل الامام في بيت غير بيته؟ اقتربت من سياج البيت المتهالك اصخت السمع وجعلت عيني على الجدار العاكس لظل الشبحين؛ سمعت ضحكات ماجنة وشعر طويل يتطاير في الهواء حتى يصل الى وجه الإمام الذي يقرب رأسه ليشتم الشعر المنسدل؛ رأيت عصا الإمام الغليظة ترتفع لتصل الى رأس الأنثى وتطوقها لتأتي بها اليه ؛ رأيت ظل الأنثي يقعي على الأرض حتى تربص أمام الإمام …
داخلني خوف من هيبة هذه الاشباح الليلية فركضت باتجاه أمي التي سألتني عن سبب لهاثي وتأخري في المجيء؛ قصصت عليها قصة الإمام وسألتها عن بيت الأنثى؛ نهرتني ثانية قائلة لي أن لا أتجسس على بيوت الناس ولا أتبع خطاهم ونحن لا نعرف عن الامام الا صلاحه وتقواه لكن بيت الأنثى مشبوه لا يزوره إلا الشياطين.
الإمام اذا هو الشيطان ! عرفته الآن يا أمي ولكن هل يعقل أن يكون إمامنا هو الشيطان؟ هو رجل طيب القلب ويحب الجميع ويقدره كل من في قريتنا؛ لماذا يا إمي لم تقولي لي أن إمامنا هو الشيطان؟
انفعلت أمي كثيرا وصرخت في وجهي وهددتني ان لم اسكت فسوف تقص لي لساني؛ طلبت مني أن لا أقص سيرة الإمام على أحد وأن أنسى إنني رأيته يدخل ذلك البيت واستغفرت ربها كثيرا على زلة لسانها قائلة لي أن الشيطان ليس هو الإمام حاشاه عن ذلك؛ الشيطان يسكن في حارة العقر هو وأخيه.
حارة العقر يسكنها الشيطان ؟ اعرف الحارة بتفاصيلها وسكيكها لكن لم أر شيطانا أو حتى قطا أسود يسكن فيها؛ جلها مهجور؛ أهلها نزحوا منها الى حارات أخرى ولَم يعد فيها سوى بيوت الطين الخالية من أية حياة فيها؛ يتردد الصمت في جنباتها وينعق الغراب بين جدرانها.
في ظهيرة قائضة قصدت الحارة لأواجه الشيطان وجها لوجه فقد عرفت مكانه؛ مدخل الحارة بناء قوسي مزخرف نقشت عليه آيات وأبيات شعر وتاريخ محفور لم أفقه معناه؛ تتوزع بيوتات الحارة يمنة ويسرة كأنها علب كبريتية صفت بجانب بعضها البعض وكلها بنيت من الطين والآجر بعضها تداعى والآخر في طريقه الى الإندثار.
تجولت بين السكك علني ألمحه أو ألمح أخاه ولكن بلا فائدة؛ لفحتني شمس القائلة فلجأت الى ظل بيت أحتمي به؛ لمحت خلسة حركة في بيت قصي؛ أثار فضولي الأمر فاقتربت حذرا أجر خطواتي البطيئة حتى صرت على مرمى حجر من بيت فتحت أبوابه ونوافذه الخشبية علها صاحبها يحضى بنسمة هواء عابرة وسط أركام الطين والتراب. اختلست النظر لأتبين شخص طويل القامة يلبس دشداشة زرقاء قاتمة ويضع غترة صفراء زعفرانية على رأسه ويقف أمام مرآة صغيرة يعدل فيها من منظره.
يا إلهي انه سعود عراد ويكنى بسعود بتشديد عينه شاب أمرد يتزين كالنساء ويضع كحلا في عينيه؛ يكثر من التعطر والتأنق ولبس ما فقع لونه من الثياب. آب الى قريتنا التي خرج منها صغيرا بعد أن قضى عمره مغتربا في البحرين في منطقة عراد وهي سبب تسميته بسعود عراد ولما عاد لم تحتمل القرية تصرفاته. يصفه كثيرون بالمخنث لان مشيته متكسرة متغنجة ووجهه أمرد محلوق اللحية والشارب لا يوحي بوجه رجل؛ سنه الذهبي يتوسط فمه وهو ما يلفت الناظر اليه.
مددت نظري لأرى ماذا يفعل قبالة المرآة الصغيرة؛ ملقط صغير ينتف به شعيرات نبتت في ذقنه؛ وعلى مقربة منه زجاجات بألوان صفراء وخضراء وحمراء ومرود ومكحلة وهو واقف يتبرج ويتأنق كأنه ذاهب الى حفل أو عرس.
لمحني استرق النظر اليه؛ ارتبكت؛ خفت؛ سرت قشعريرة في كل جسدي؛ تسمرت مكاني؛ بدأ العرق يتساقط من جبيني؛ تلعثمت لم أقو حتى على فتح فمي؛ لقد رآني الشيطان فجأة.
أومأ لي بإشارة بيمناه؛ بان سنه الذهبي؛ غارت عيناه المكحولتان؛ انعقد حاجباه وارتسمت على ناصيته خيوط تعقدت كأنها كثبان رملي صحراوي ناداني تعال .. تعال ؛ رجلاي هذه المرة لم تحملاني على الهرب كما هربت من أمام المعلم؛ تجمدت كأنني قطعة ثلج؛ هأنذا اقف أمامه وجها لوجه يا إلهي ما حملني على هذا الموقف ما لي أنا والشيطان لقد حذرتني أمي منه لكنني عنيد لم استمع لكلامها والآن سأدفع ثمن تهوري غاليا.
أخرج سعود من جيب دشداشته قطعة حلوى؛ مصاصة؛ رأسها مغلف بقرطاسة سميكة وتتدلى منها عصى صغيرة بيضاء لونها أحمر وطعمها سكر؛ يا إلهي انها نوعي المفضل الذي أموت عليه وأدخر كل بيسة تنقدني إياها أمي عند ذهابي الى المدرسة. خارت قواي بعد رؤية تلك المصاصة في يد سعود هل أتقدم منه وأقبلها أم أطلق رجلي للريح؟ علها فخ أراد سعود به استدراجي مثل الإطباق علي كما يفعل كثير من الفتية الشياطين في حارتنا؛ عيني معلقة بيد سعود وعقلي الباطن يستدعي كلام أمي ” أها وتقبل شي من أحد” هذا إن كان من أحد فما بال أمي لو رأتني الآن أقبل مصاصة سعود عراد حتما سوف تقتلني.
أنا ميت ميت كذا أو كذا إما بيد أمي التي حذرتني من الشيطان الواقف أمامي أو بيد سعود الحامل مصاصته أمامي وينومني تنويما مغناطيسا بمصاصته الحمراء.
طال أمد وقوفي ورمضاء حارة العقر تلهب قدمي العارية من أية موانع؛ تقدمت خطوة باتجاه الموت ثم اتبعتها بأخرى وابتسامة سعود تجذبني اليه كأنها المغناطيس؛ هؤلا …. لديهم طرقهم الخاصة لاستدراج ضحاياهم من الصغار؛ أمسكت المصاصة من رأسها فلم يبد الأمرد مقاومة بل أفلتها من يده؛ مد لي يدا أخرى بكوب ماء بارد بعد أن رأى لهاتي قد تشققت من العطش تجرعت الكوب كله فمد لي غيره حتى هدأت سريرتي.
أجلسني جواره في سريره المعدني؛ تفحصت الغرفة ليس بها شىء سوى دشداشة ومصر معلقان على وتد؛ بجانبهما صورة بالأبيض والأسود وهو يلبس الغترة والعقال البحريني أيام صباه؛ وفِي مكان قصي من الغرفة موقد وبضع أواني معدنية وبرطمانان للشاي والسكر. لا شىء يبدو غير طبيعي حياة أقل ما يقال عنها انها عادية لا شىء يميز الجالس بجانبي ولم ألمس منه شىء مما قيل ويقال عنه في قريتنا.
“كيف حالك” سألني؛ تحشرجت قليلا ولكني نطقتها أخيرا “زين”؛ أضاف ليهدىء من روعتي ” انت ولد من” أجبته بعد أن زالت رعشتي ” أنا ود حمود بن سالم” رفع رأسه الى السقف عاليا كمن ينظر الى اللا شىء “أبوك ونعم الرجل؛ كنّا أنا وهو أصدقاء في البحرين عملنا في كراج بو صابر كان نعم الأخ” للحظة وضعت أبي في خانة من يصاحب …؛ لكن وصية سعود بالاعتناء بأمي أعادتني الى واقعي فانقشعت تلك الصورة الضبابية.
وضع يده على رأسي وربت على كتفي مودعا إياي بابتسامة وثغر باسم.
هل هذا هو الشيطان ؟ أهذا الذي حذرتني منه يا أمي؟ لو سألتني لقلت لك ان من يؤذي الناس ولو بكلمة هو الشيطان؛ لم أر ممن قال أنه صديق أبي إلا كل خير ومعروف؛ هو أحسن لي وربت على كتفي في حين أن غيره شتمني وضربني . اذا من هو الشيطان يا أمي؛ لعلك كنت مخطئة.
لن أحكي لأمي حكايتي هذه لانها سوف تغضب مني ولن تصدقني ولن أحكي هذه الحكاية برمتها لأبي رحمة الله عليه الذي أخطأ في استنتاجه من أن الشيطان لا يقترب ممن يصلي في المسجد؛ سأقول لك يا أبي عندما ألقاك أن الشيطان يتمثل على صور شتى وأفضل صوره هي صورة ابن آدم؛ لن أحكي هذه الحكاية سوى لكم أنتم أعزائي.