مهنتنا أي مهنة الصحافة غير محبوبة على المطلق من قبل كثير من أطياف المجتمع، فهي أول من يجلب الاخبار السيئة ويعلن عنها وينشرها على الملأ، وهي من يفتش عن الأخطاء في الجهات المختلفة ويحقق فيها ويثير الكثير من الأسئلة والاستفسارات وكما يقال فالصحفي يدس أنفه في كل صغيرة وكبيرة بحثا عن المعلومة والحقيقة وتفنيد الصحيح من السقيم من الاخبار. وعلى الجانب الاخر هي مهنة تثير الكثير من المشاكل للمؤسسة التي ينتمي اليها الصحفي من جهة وتثير أيضا الكثير من التساؤلات حول الصحفي ذاته في مصداقيته وولائه واخلاصه وغيرها من الأسئلة التي لا تنتهي ولا يمكن العثور على إجابات صحيحة لها.
هي مهنة يقع ممتهنها بين مطرقة القارىء الباحث عن كل الاخبار والمعلومات والتحقيقيات والاخبار الصحيحة وبينسندان المتاعب التي تثيرها هذه المهنة بدءا من توجهات وسياسات المؤسسة الصحفية التي ينتمي اليها وبين القيم والاخلاقيات والأعراف الصحفية التي يتبناها ويرفع شعارها الصحفي في كل خبر يكتبه او تحقيق يبحث فيه عن إجابات او استطلاع يبحر فيه نحو شمولية الفكرة والموضوع.
العمل في هذه المهنة شاق جدا من النواحي البدنية والنفسية ولعل الجانب البدني يكون أخف وطئا من الجانب النفسي وان كان يستنزف طاقات الصحفي في يومه كاملا في البحث والكتابة والسؤال وتقصي الحقائق والتواصل مع ذوي الشأن والمراجعة والتدقيق والسؤال مرة أخرى وإعادة الكتابة لمرة ثانية وثالثة وانتظار النشر وتلقي ردود الفعل، غير أن وطأة الضغوط النفسية التي يتعرض لها من اختار هذه المهنة سبيلا له هي أشد خطورة وأكثر إيلاما من الضغوط البدنية فكثير من الدراسات والبحوث اشارت الى أن الصحفيين هم من أكثر الفئات عرضة للامراض النفسية المتمثلة في الضغوط النفسية والاكتئاب والقلق والعزلة والشعور بالإحباط والشعور بالاحتراق الوظيفي وهم أكثر الناس عرضة للمخاطر الصحية والبدنية فكما أشار تقرير للجنة حماية الصحفيين ان عدد 24 صحفيا قتل خلال العام الماضي وسجن أكثر من 293 صحفي في كل دول العالم اثناء تأديه عملهم، يشير الى أن هذه المهنة كما قيل عنها منذ أمد طويل بانها ” مهنة البحث عن المتاعب”.
في سبيل كتابة هذا المقال قرأت الكثير من الكتابات والمقالات والدراسات واستعنت بخبرات بعض الأصدقاء وسألت بعض المختصين من الأكاديميين والباحثين فضلا عن تجربتي الشخصية في هذه المهنة عن الصعوبات والمشاكل النفسية التي يواجهها الصحفي في يومه وما ينتج عن هذه الظواهر من مشكلات تنعكس على المهنة وممتهنها فوجدت أن ابرز ما شخصه علماء النفس والاجتماع من ظواهر تتمثل في الاحتراق الوظيفي وهي متلازمة تنتج عن الاجهاد المزمن في مكان العمل وما يصاحب هذا الاجهاد من مشكلات تؤدي الى الإرهاق البدني والنفسي وتراجع الإنتاجية وفقدان الهوية الشخصية إضافة الى ارتفاع نسب التوتر والقلق في العمل. كما يتعرض الصحفيين ما يسمى بإرهاق التعاطف وهو كما عرفته بعض المراجع بأنه حالة من التعب التراكمي النفسي والجسدي ينتج من الاشفاق على حالات إنسانية يتعاطف الصحفي معها ما قد يسفر عن اعراض مثل البرود واللامبالاة والغضب.
لا اريد هنا أن ازيد المشهد قتامة لكن الأوضاع المعيشية والاقتصادية والوظيفية خلال ازمة كورونا زادت الطين بلة وعمقت مشهد الازمة الصحفية وزادت من صعوبته خصوصا عقب تزايد حالات فصل الصحفيين من وظائف والاستغناء عن خدماتهم الامر الذي فاقم من الازمات النفسية التي يمر بها الصحفي وزادت من اعبائه عبئا آخر، كما أن سياسة العمل عن بعد التي انتهجتها كثير من الاعمال وانتقال الصحفي من العمل الميداني الى العمل من المنزل فاقم أيضا من مشكلاته وان كان البعض يعتبرها بمثابة هبة وميزة حين تحولت غرفة المعيشة الى غرفة للأخبار اشترك في تحريرها كل افراد الاسرة.
البحث عن المتاعب يتخذ أشكالا كثيرة والوانا عديدة أغلبها مرهق متعب ومضن لكن القليل منها ما تجد لذته وحلاوته عن قطافه، فالصحفي ينسى متاعبه ومشاكله حين يسمع اطراء على ما كتب او رد فعل إيجابي عما نشر أو انتباه واشارة الى ما دونه أو تعديل وتصويب على ما لاحظه وهذا برأي هو العزاء الوحيد والسلوى التي يلوذ بها الصحفي للتسلية عن ما يصادفه في يومه من متاعب.