تعتبر عالمة السلوك والاستاذة بكلية هارفارد للأعمال الدكتورة “آشلي ويلانز” أن الطريقة التي نمارس بها أعمالنا في العصر الحديث هي في مجملها خاطئة؛ إذ إنها تقوم على مبدأ “أنا متوفر دائما” أو كما يرفع البعض شعار (24/7) أي أنه متوفر للعمل أربع وعشرون ساعة في اليوم ولسبعة أيام متواصلة في الأسبوع أي أن كل حياته مُسَخَّرة للوظيفة والعمل. وساعد على تعميق هذا المفهوم التقنيات الحديثة المتمثلة في الهاتف النقال والحاسب الآلي والخدمات السحابية المختلفة ووجود كثير من الأنظمة المكتبية التي تتيح للموظف العمل من أي مكان وفي أي مكان من العالم.
بات من الطبيعي مشاهدة شخص يدير أعماله من أي مكان كان وفي أي وقت يشاء سواء أكان يتناول الغداء أو العشاء مع أسرته أو في رحلة استرخاء واستجمام أو في سفر أو في جلسة مع الأصدقاء والأهل أو حتى وهو مسترخ على أريكته أو على سرير نومه. الجميع بات يعمل في أي وقت وفي كل وقت يحمل شعار أنا متوفر للعمل في أي وقت وفي كل مكان وزمان.
تقول الدكتورة “آشلي” إن هذه الثقافة بقدر ما هي مريحة لأرباب الأعمال بقدر ما هي مرهقة وتدمر السلامة الشخصية للفرد، حيث تبدأ أعراض هذه الأزمة من الضغوطات النفسية وعدم الإحساس بالسعادة والإدمان على العمل لتصل إلى تسببها في كثير من الأمراض كالضغط والقلق والاكتئاب والإحباط النفسي نتيجة للعمل لساعات طويلة أمام الشاشات وقلة الاختلاط والتحدث إلى الناس والعائلة والانشغال الدائم بالعمل وقد يصل الأمر إلى الإدمان على تفقد كل ما يمت إلى العمل بصلة في كل دقيقة وثانية.
وأنا أتابع حديث الدكتورة “آشلي” اجتررت بعضا من الذكريات الأولى لتعمق انتشار مرض الكورونا في العالم وكيف انقلب العالم رأسا على عقب بعدما اختفت على وجه الأرض بعض مظاهر الالتقاء والاجتماع خشية انتشار الفيروس واستعيض عن ذلك برؤيا ألواح الهاتف والحاسب الآلي واستبدلت بيئة الأعمال الحقيقية بالبيئة الافتراضية التي تقوم على العمل عن بُعد من أي مكان وأصبح الناس في كل العالم منكبين على أجهزتهم في كل الأوقات ابتداء من صغار السن حتى سن متأخرة من العمر من دون مراعاة للوقت أو الزمان أو المكان.
وقد توسم تلك الفترة ـــ أي فترة الوباء ـــ بأنها فترة عمّقت شعار “أنا متاح دائما، وأعمل في كل وقت” وكما يحسب لها بأنها جلبت فورة لبعض الأعمال القائمة على العمل في كل وقت فإنها أيضا جلبت معها كثيرا من الأمراض والعلل النفسية التي ستتعمق وتتغلغل أكثر في نفوس وأفئدة وعقول الناشئة ممن تربوا على حب الألواح وتقديسها والارتباط بها.
عقب تشخيص المشكلة يأتي الحل وهو يتمثل في الفصل بين العناصر الإنسانية المختلفة، فحق العائلة يجب أن يكرس بكامله للعائلة لا تتداخل معه أطراف وعناصر أخرى، وحق المتعة والتمتع بالوقت في الإجازة يجب أن يبقى حقا مصانا لا تتقاطع أو تتداخل معه مشوشات الحياة العملية والألواح الالكترونية وحق العمل ذاته يجب أن يكون محددا بوقت وزمن معينين لا يمتد إلى أوقات طويلة تتجاوز اليوم بأكمله، وهذا ما ينصح به خبراء وأطباء السلوك البشري.
وأنا أكتب هذا المقال مر بطيفي كتاب “في مدح الكسل” لـ “برتراند راسل” الفيلسوف وعالم المنطق البريطاني وفيه يناقش مبدأ أن الحضارة الإنسانية القديمة كانت بحاجة إلى مزيد من العمل ومزيد من العمال ومزيد من السخرة لتقدمها وتطورها، أما اليوم فمع التقدم التقني والحضاري فلم تعد الحاجة إلى مثل هذا النوع من السخرة الذي يستعبد فيه الانسان أخيه الانسان كما قال “راسل”، مضيفا أن العمل الذي ينجز في العالم يزيد عما ينبغي إنجازه بكثير.
أَلَّف “راسل” كتابه هذا في نهاية ثلاثينيات القرن المنصرم وانتقد فيه كثرة الأعمال التي يقوم بها الناس ومنافسة بعضهم بعضا واستحواذ قلة من العاملين على كثير من الأعمال مع حرمان لطبقات أخرى من العمل وإنهاك الناس لأنفسهم في سبيل العمل، وهو في مقابل ذلك يدعو إلى إعلاء قيمة الكسل وعدم إرهاق النفس والاستحواذ على كل الأعمال دفعة واحدة لأن ذلك يتسبب في كثير من الأمراض والعلل للمجتمع.
بين “راسل” والدكتورة “آشلي” أجدني هنا بحاجة إلى مزيد من الاسترخاء والكسل وتنظيم الوقت وتنحية بعض قاتلات الوقت وملهياته والالتفات إلى الجانب الروحي والنفسي في الحياة لأن جمال الحياة أن تعيشها بهدوء بعيدا عن الصخب.