عام يلملم أوراقه ويطوي صحائفه بكل ما فيها من حسن وقبيح، جيد وسيئ، صحة وسقم، حب وكراهية. عام جمع الكثير من المتناقضات والمترادفات ويأبى أن يرحل برتابة كما رحلت السنون التي سبقته، بل ترك ذكريات كثيرة وندوبا عميقة وأوجاعا يتوالى أنينها أبد الدهر. عام تقترب آخر أوراقه من السقوط لكنه قبلها أسقط أوراقا كثيرة وعرى أرواحا عديدة وثكل أنفسا وأضحك قلوبا وأبكى أرواحا.
عام يرحل بعد أن ترك أرضا بورا ينعق فيها الغراب وتعصف فيها رياح الحروب والأزمات، والأوبئة، والأسقام، والأوجاع. عام يرحل وقد نشر السلام والطمأنينة في بعض البلاد التي زارها الحظ فابتسم لها القدر وصافحتها السعادة والهناء. عام تكًسب منه أناس وملل ونحل ودول وخسر فيه أيضا أناس وملل ونحل ودول. عام يأبى أن ينسلّ من دون ضوضاء أو ضجيج أو أن يغادر من دون جلبة، عام يأبى أن يقول وداعا من دون مفاجآت اللحظة الأخيرة.
عام خط بقلمه كثير من القوانين والأعراف وغير في كثير من القيم والعادات ورسخ لمفاهيم لم تكن حاضرة قبله وبدل من كينونة الإنسان وصيرورته وأخرج من قمقمه كثير من المغالطات لم تكن مستحبة ولا مستساغة في الأعوام التي سبقته وحرف وبدل في بشرية الإنسان واجتماعيته وعدل في طبائع الإنسان وسلوكياته وحذف وأضاف بعضا من سمات فطرية الإنسان ليستبدلها بفطر اصطناعية صماء جامدة تحيا بلا روح وتعيش بلا نفس.
المحور في هذا الموضوع هو الإنسان، فهو أساس الحياة وركيزتها التي تقوم عليها الدنيا بأكملها، وقد لا يعني تعاقب السنون والدهور والأزمان أن تتغير الفطرة السوية التي فطر عليها هذا الإنسان بقدر ما تتغير بعض السمات والخصائص والأوضاع في حياة هذا الإنسان فهذه سنة الكون التي جرت على البشرية منذ الأزل ولا تزال تجري عليها حتى يرث الله الأرض ومن عليها، تقتضي تطورات الحياة ومداراتها أن يتحول الإنسان ويتبدل ويتطور ويتأقلم أيضا مع من حوله أولا ثم مع كل ما يستجد في الحياة من قوانين على أن يحاول الإمساك بذاته الداخلية من الانجراف في سيل المتغيرات السلبية التي تتعارض مع قيمه ومبادئه وأن يحاول رسم طريق خاص به يبتعد به عن كل المسارات والدروب التي تؤدي إلى مصارع الهلكة والخراب.
عام يمضي وعلينا أن نستذكر دروسه ونراجع تاريخه ونستحضر ماضيه، فالتاريخ أفضل معلم للبشرية وخير مؤدب لها فمنه يتعلم الإنسان ومنه يتطور ويتقدم ويتأقلم، ومن نافذته يطل على المستقبل ويستشرفه ويتطلع إليه بكثير من الحب والشغف ومنه يعرف أين يقف اليوم والى أين هو ذاهب غدا. من التاريخ وعبره ودروسه تصنع الحضارات وتبنى الأمم وتعتمر الأرض ويتقدم الإنسان، فدروس الماضي هي رؤى للمستقبل وخطط للحاضر لا غنى للإنسان عن دراستها والوقوف عليها فما فات كما يقال مات لكنه باق للاستفادة منه ومن دروسه وعبره.
عام يمضي وسيأتي بعده عام – الله أعلم به منا- نرجو أن يكون فيه الخير عميما والسلام سبيلا والطمأنينة مسلكا وطريقا، ونأمل في العام الجديد أن تهدأ لهاثات البشرية ويسكت صراخ الإنسان وزعيقه وأن يتسرب بعض من الهدوء والسلام إلى دواخلنا ليبدأ من أرواحنا الداخلية لينتشر بعدها إلى الأرواح الخارجية ومنها إلى البشرية ككل. نأمل في العام الجديد أن نجد ذواتنا وأن نسعد أرواحنا وأراح من حولنا وأن تجد البشرية ترياقا يعيد إليها نضارتها وشبابها ويرجع إليها قوتها وعنفوانها وأن ترجع البشرية إلى حضن أمها الأرض لتعانقها وتحضنها كي يتصالح الكون مع الإنسان الذي هو بالأساس محور هذا الكون وفلكه الذي يدور حوله. نأمل في عام جديد تصفو فيه الحياة للبشرية وأن تتحقق فيه كل الأماني والغايات. نتمنى ونأمل أن يتحقق ما نتمناه فالعام القادم قد يحمل معه بشارات خير لنا جميعا.