انفرط عام من العمر كنت اتكأ عليه ليسندني من مزالق الكبر، شعيرات بيضاء نبتت في كل مكان باتت علامة واضحة على التقدم في العمر، الجسد المثقل بالكثير من متاعب الحياة لم يعد يحتمله عظم واهن. كلمات وهنهنات تسمعها بين فينة وأخرى تسميك مرة بالعم وأخرى بالوالد وغيرها “بالشايب” كلها علامات على كبر في السن بدأت صورها في الوضوح قليلا قليلا.
عتبات الأربعين كانت ملاذا ومآلا للشباب فيها كل النعم والخيرات والبركات وفيها كما قيل اكتمال العقل ورجحان الفكر وإيتاء الحكمة واكتمال الحلم وفهم المنطق وفيها بعض من رائحة الثلاثين التي هي فورة الشباب وفتوته، وقوته، وعنفوانه، وسلطانه وقبلها العشرين التي كانت انطلاقة لسباق الحياة ومضمارها الطويل.
العشرين ثم الثلاثين بعدها الأربعين وحبات العمر تبدأ في الانفراط واحدة تلو الأخرى حتى تصل الى الخمسين التي هي بداية لعتبة كبرى وعقبة أخرى من عقبات وعتبات العمر يتغير فيها كل شيء ويتحول وكأنه بداية جديدة وميلاد جديد ينتقل فيه الانسان من عقبة الشباب الى عقبة الشيخوخة والكهولة ليبدأ فيها بالنزول التدريجي من قمة العمر وفورته الى مسارات أخرى تكون ابطأ وأسهل مدفوعة بجهد سابق ساهم في تخفيف ضغوط الحياة ومتطلباتها.
ناقوس الخمسين دق مبكرا فاستشعرت صوته وخبرت كنهه وعرفت ماهيته وكيف سيكون الوضع عند الوصول الى تلك العتبة، رأيته في وجوه الاحباب والاصدقاء كيف تبدلت حالهم وتغيرت صورهم وتبدلت ذواتهم وتنقهت انفسهم، رأيت علاماته ظاهرة وباطنه على وجوه الاحبة في قمة الرأس واستدارة الوجه وتشكل الجسم والبدن ورأيت ما خفي عن النظر من تحول وتبدل في الامزجة والاهواء والانفس ورأيت تحول النفس وميلها الى الدعة والسكون والابتعاد عن كثير من ماديات الحياة الى جوهر الحياة وسرها الازلي، رأيت البعض يركن الى العمر ويتكأ عليه ورأيت الغير لا يلقي له بالا فهو كما يقول مجرد رقم من الارقام في الحياة فأنت مرهن بما تفعل ولست أسيرا بأرقام الحياة.
بدأت أتأهب لبلوغ هذا الرقم مع ان المسافة التي تفصلني عنه ليست بالبعيدة لكنني بالغت في الاستعداد لهذه العتبة، اقلعت عن كثير من العادات السيئة في الاكل والشرب فالجسد الواهن قد لا يسعف في تجرع سموم زائدة عنه، عكفت على التأمل والتدبر والاختلاء والبعد عن كثير من صخب الحياة وضجيجها والتمست لنفسي ساعات للخلوة بعيدا عن الاعين كخلوة العابد في صومعته، أدمنت غذاء الروح والعقل فعكفت على القراءة والاستماع والمشاهدة والتعلم فالحياة كما أيقنت لا تقف عند حد للعلم والمعرفة والتعلم فهي من المهد الى اللحد، اقتطعت من يومي أجزاء للمعرفة والتعلم ومجالسة من يستفاد بعلمهم لا من يضيق الصدر بجلهلم. بدأت في التطواف والمشي في مناكب الارض وهضابها وسهولها فلا شىء يضاهي المشي والتأمل في الطبيعة ومعجزاتها وجمالها وسحرها فهي الملاذ لكل حيران وهي السكن لكل تائة هيمان.
أجدني وأنا على عتبات هذا العمر أناقض ذاتي أحيانا واناقض فطرة الانسان من حبه للعودة الى الوراء الى عمر الصغار وشقاوة الاطفال وروح الشباب كما قال مرة الشاعر فاروق جويدة كما ينسب بيت شعر له يقول فيه يا أيها العمر السريع خذلتني ووضعت احمالا على احمالي .. خذني الى عمر الصغار لانني لم انته من ضحكة الاطفال، أجدني لا استسيغ فكرة العودة بالعمر الى الوراء فما كان كان وقد عشته بكل تفاصيله حلوه ومره والان مقبل على مرحلة تكمل العقد المنتظمة حباته المتناسقة فصوصه وما سيأتي من شتاءات العمر وخريفه هي محل ترحاب واستعداد.
هذا بوح داخلي لم تكتبه اليد بل القلب من كتب حروفه فهو نابع من صدق عاطفة ونبل مشاعر عل البعض يتفق فيها معي والبعض يخالفني فيها الرأي ويبقى الفيصل في ذلك كله كيف يرسم الانسان خطاه وكيف يختار مصيره فكل شىء مرهون بالانسان وارادته.