جدلية التقليدي في مقابل الحديث ما زالت تلقي بظلالها على عالمنا اليوم، فهذه الثيمة باتت عنوانا برّاقا لنعت التقدم والتخلف، وللإشارة إلى كل ما هو قديم، وكل ما هو جديد بغض النظر عن الإغراق في تعريفات الجيد من السيئ في التقليدي والحديث، ولم تسلم العلوم المختلفة من تأطيرات هذه المنظومة فبات الخيط الفاصل في كل علم على حدة يوسم أنه حديث أو تقليدي جديد أم قديم حتى وصل الأمر إلى الركون في كلمة الحديث البرّاقة، ونبذ كلمة التقليدي المرادفة للقديم والعتيق.
في مسألة العلوم يبرز ذلك التباين، الذي قد لا يخفى بين الحديث والتقليدي، يعززه جيش من أنصار الفريقين المتعصبين والمتسامحين لهذا وذاك، ومرّ ذلك كله عبر العصور الإنسانية المختلفة التي كان الفريقين فيها كفرسي رهان يسابق أحدهما الآخر بين كرّ وفر، لتنتهي المعركة بانتصار أحدهما وخسران الآخر، ولتدور الدائرة مرة أخرى لينتصر الخاسر ويخسر المنتصر وهكذا دواليك.
ولعل من يقرأ في تاريخ العلوم لا سيما العلوم الإنسانية منها يلحظ مدى ضراوة وشراسة المدارس التي يصل الحال ببعضها إلى تكفير الآخر وشنّ الحروب الكلامية والفعّلية عليه.
والمتتبع لمسيرة العلوم المختلفة يجد أن جلّ البشر يومنون إيمانيا يقينيا بالعلوم الحديثة وأهميتها في التطوير والتنمية وبناء الأمم ويسعون إلى تطويرها واللحاق بركبها، غير أن هذا اليقين لا يعضده ما يحدث على أرض الواقع، فمناهج التعليم على الأقل في العصر الحديث لا زالت ترزح تحت وطأة التقليدية في التلقين والحفظ، ومؤسسات الأعمال لا زال بينها وبين مواكبة جديد العلوم بون شاسع، حتى بعض العلوم كالطب والهندسة والفيزياء لا زالت تحبو نحو اعتناق مبادئ العلوم الحديثة وما تتيحه هذه العلوم من وعود بالتقدم والتطور للبشرية جمعاء.
ترى ما المانع من تبني العلوم الحديثة منهجا وطريقا للحياة والتسليم بأمر أن قديم العلوم لم يعد صالحا لإدارة البشر، ولا لمتطلبات الحياة الحديثة ولماذا نستغرق نحن البشر وقتا طويلا في اعتناق وتبني الأفكار الجديدة من العلوم ونتردد في قبول أو رفض كثير منها؟ تكمن الإجابة على مثل هذا النوع من الأسئلة في الإنسان ذاته، المجبولة على التمسك بالقديم والحنين إليه، وعدم المغامرة في الإقدام على ركوب موجة الجديد من العلوم والرهبة من التغيير وغيرها من الأسباب، التي لا يتعلق الكثير منها بماهية العلوم بقدر ما يتعلق بماهية الإنسان وتفكيره واعتناقه لمبادئه.
https://soundcloud.com/ajpodcasts/home-schooling
تبقى الحياة كلها متجددة وتجددها يحصل كل يوم ولن يقتصر هذه التجديد على العلوم والمعارف، بل سيشمل كل أنماط الحياة المختلفة، سواء اقتنع البشر بأهمية هذا التجديد أم لم يقتنعوا، فإن قوة ما قادمة من البعيد ستكون كفيلة بتغيير كثير من المفاهيم، وربما يكون الوقت قد فات في محاولة ترميم ما تبقى من رمق القديم، وبعض عربات الحديث قد فاتت الكثيرين ممن لا يزالون متمسكين بتقليديتهم، غير أن قطار التحديث سيظل ماضيا في طريقه من دون عقبات أو عراقيل.